منتدى الاخوه ايد فى ايد
مرحبا بك اخى فى الله
المرجوا منك أن تعرّف بنفسك
و تدخل المنتدى معنا إن لم يكن لديك حساب
بعد نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بكم فى منتدى الاخوه ايد فى ايد
/ اخوكم احمد المصرى
منتدى الاخوه ايد فى ايد
مرحبا بك اخى فى الله
المرجوا منك أن تعرّف بنفسك
و تدخل المنتدى معنا إن لم يكن لديك حساب
بعد نتشرف بدعوتك لإنشائه
ونتشرف بكم فى منتدى الاخوه ايد فى ايد
/ اخوكم احمد المصرى
منتدى الاخوه ايد فى ايد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الاخوه ايد فى ايد

منتدى الاخوه يرحب بكم
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر
المواضيع الأخيرة
» اكبـر مكتبة عميد الموال الشعبى " يوسـف شـتا
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأحد 20 ديسمبر - 18:24 من طرف احمد المصرى

» ماذا تقول لمن يخطر على بالك الآن
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالجمعة 20 ديسمبر - 9:06 من طرف احمد المصرى

» شايف عينك تحت الحاجب
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالسبت 23 يونيو - 15:17 من طرف احمد المصرى

» قصر البوسيت ع البحر
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأحد 18 يونيو - 15:07 من طرف احمد المصرى

» قرية بلوبيتش ع البحر وبالتقسيط لا تدع ال
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأحد 18 يونيو - 15:06 من طرف احمد المصرى

» اراضي علم الروم بواحة التجاريين
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأحد 18 يونيو - 15:05 من طرف احمد المصرى

» اراضي عجيبة لبناء فيلا ع البحر
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 8 يونيو - 22:00 من طرف خالداء

» كان ياماكان
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 16 مارس - 11:40 من طرف احمد المصرى

» لن انساكى
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 16 مارس - 11:04 من طرف احمد المصرى

» مجموعة برامج لمتعلمي مادة الإنجليزية
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 1 مارس - 18:34 من طرف احمد المصرى

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
احمد المصرى
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
ابن النيل
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
رحاب
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
ابواحمد
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
خالد المصرى
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
دموع ملاك
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
زهرة المدائن
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
عيسى حياتو
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
فطومة
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
عااشقة الفردوس
 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_rcap كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Voting_bar كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Vote_lcap 
المواضيع الأكثر شعبية
اسئله بايخه واجوبه ارخم
سلسلة قصائد الزير سالم
قصيدة: الماضي رني غلقت بابو و قضيت عليه للهاشمي قروابي رحمه الله
جميع ولايات الجزائر
يلى نسيت الغرام
خصائص أسلوب القرآن الكريم
جميع ولايات المملكة المغربية
جميع ولايات الجمهورية التونسية
كيفية فتح الايميلات بدون رقم سري......
دعاء لمصر الغاليه
المواضيع الأكثر نشاطاً
لعبة التحدي بين الشباب والبناتx_o
بيت العيله . . لاتفوتكم
ماذا تقول لمن يخطر على بالك الآن
جميع ولايات المملكة المغربية
جميع ولايات الجمهورية التونسية
كتاب الطهـــارة (باب المياه)
برهن احساس بالحروف
المليون رد
مباراة كرة قدم بين الأعضاء و العضوات
جميع ولايات الجزائر

 

  كتاب الطهـــارة (باب المياه)

اذهب الى الأسفل 
+8
ندى الورود
عبده نوح
عيسى حياتو
ابواحمد
رحاب
فطومة
ابن النيل
احمد المصرى
12 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 16 يونيو - 10:47

مشكور ابو الغالى على مرورك الطيب

لك احترامى وبارك الله فيك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: بَابّ الغُسْل    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 29 يونيو - 12:43

بَابّ الغُسْل

سئل ـ رَحمه الله ـ عن غسل الجنابة‏:‏ هل هو فرض أم لا‏؟‏ وهل يجوز لأحد الصلاة جنبًا ولا يعيد‏؟‏
فأجاب‏:‏
الطهارة من الجنابة فرض، ليس لأحد أن يصلي جنبًا ولا محدثًا، حتى يتطهر، ومن صلى بغير طهارة شرعية مستحلاً لذلك فهو كافر، ولو لم يستحل ذلك فقد اختلف في كفره، وهو مستحق للعقوبة الغليظة، لكن إن كان قادرًا على الاغتسال بالماء اغتسل، وإن كان عادمًا للماء، ويخاف الضرر باستعماله بمرض، أو خوف برد تيمم، وصلى‏.‏
وإن تعذر الغسل والتيمم صلى بلا غسل ولا تيمم، في أظهر أقوال العلماء، ولا إعادة عليه‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن رجل يلاعب امرأته، ثم بعد ساعة يبول، فيخرج شبه المني بألم وعصر، فهل يجب عليه الغسل‏؟‏
فأجاب‏:‏
المني الذي يوجب الغسل هو الذي يخرج بشهوة، وهو أبيض غليظ، تشبه رائحته رائحة الطَّلع‏.‏
فأما المني الذي يخرج بلا شهوة، إما لمرض، أو غيره، فهذا فاسد لا يوجب الغسل عند أكثر العلماء‏:‏ كمالك، وأبي حنيفة وأحمد‏.‏ كما أن دم الاستحاضة لا يوجب الغسل، والخارج عقيب البول تارة مع ألم، أو بلا ألم، هو من هذا الباب، لا غسل فيه عند جمهور العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن امرأة قيل لها‏:‏ إذا كان عليك نجاسة من عذر النساء، أو من جنابة لا تتوضئي إلا تمسحي بالماء من داخل الفرج، فهل يصح ذلك‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للَّه، لا يجب على المرأة إذا اغتسلت من جنابة أو حيض غسل داخل الفرج، في أصح القولين، والله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن امرأتين تباحثتا، فقالت إحداهما‏:‏ يجب على المرأة أن تدس إصبعها، وتغسل الرحم من داخل‏.‏ وقالت الأخرى‏:‏ لا يجب إلا غسل الفرج من ظاهر، فأيهما على الصواب‏؟‏
فأجاب‏:‏
الصحيح أنه لا يجب عليها ذلك، وإن فعلت جاز‏.‏
وَسُئِلَ عن امرأة تضع معها دواء وقت المجامعة، تمنع بذلك نفوذ المني في مجاري الحبل، فهل ذلك جائز حلال أم لا‏؟‏ وهل إذا بقي ذلك الدواء معها بعد الجماع ولم يخرج يجوز لها الصلاة والصوم بعد الغسل، أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
أما صومها وصلاتها فصحيحة، وإن كان ذلك الدواء في جوفها، وأما جواز ذلك ففيه نزاع بين العلماء، والأحوط أنه لا يفعل‏.‏ والله أعلم‏.‏
وَسُئِل‏:‏ هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد، وما قدر ذلك‏؟‏ وهل تكره الزيادة على هذا مع اختلاف أحوالهم، وهل يكرر الصب على وجهه في الوضوء‏؟‏
فأجاب‏:‏
الصاع بالرطل الدمشقي‏:‏ رطل وأوقيتان تقريبًا، والمد ربع ذلك‏.‏ وهذا مع الاقتصاد والرفق يكفي غالب الناس، وإن احتاج إلى الزيادة أحيانًا لحاجة فلا بأس بذلك‏.‏
لكن من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء، وما ذكر من تكثير الاغتراف مكروه، بل إذا غرف الماء يرسله على وجهه إرسالا من أعالى الوجه إلى أسفله برفق‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن رجل اغتسل، ولم يتوضأ فهل يجزيه ذلك، أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
الأفضل أن يتوضأ، ثم يغسل سائر بدنه، ولا يعيد الوضوء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل‏.‏
ولو اقتصر على الاغتسال من غير وضوء، أجزأه ذلك في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة، لكن عند أبي حنيفة وأحمد‏:‏ عليه المضمضة والاستنشاق، وعند مالك والشافعي ليس عليه ذلك، وهل ينوى رفع الحدثين، فيه نزاع بين العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏
وَقَالَ ـ رَحمه الله‏:‏
فَصْــل
في الحمَّام
قد كره الإمام أحمد بناء الحمام، وبيعه، وشراءه، وكراءه، وذلك لاشتماله على أمور محرمة كثيرًا، أو غالبًا، مثل كشف العورات ومسها والنظر إليها، والدخول المنهي عنه إليها، كنهي النساء، وقد تشتمل على فعل فواحش كبيرة وصغيرة بالنساء، والرجال‏.‏ وجاء في الحديث الذي رواه الطبراني‏:‏ ‏(‏إن الشيطان قال‏:‏ يارب اجعل لي بيتا، قال‏:‏ بيتك الحمام‏)‏‏.‏ ومن المنكرات التي يكثرها فيها تصوير الحيوان في حيطانها، وهذا متفق عليه‏.‏
قلت‏:‏ قد كتبت في غير هذا الموضع‏:‏ أنه لابد من تقييد ذلك بما إذا لم يحتج إليها، فأقول هنا‏:‏ إن جوابات أحمد ونصوصه إما أن تكون مقيدة في نفسه، بأن يكون خرج كلامه على الحمامات التي يعهدها في العراق والحجاز واليمن، وهي جمهور البلاد التي انتابها، فإنه لم يذهب إلى خراسان، ولم يأت إلى غير هذه البلاد إلا مرة في مجيئه إلى دمشق‏.‏ وهذه البلاد المذكورة الغالب عليها الحر، وأهلها لا يحتاجون إلى الحمام غالبًا؛ ولهذا لم يكن بأرض الحجاز حمام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه‏.‏ ولم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم حماما‏.‏ ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان‏.‏ والحديث الذي يروى‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الحمام موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏ ولكنّ علىّ لما قدم العراق كان بها حمامات، وقد دخل الحمام غير واحد من الصحابة، وبنى بالجحفة حمام دخلها ابن عباس وهو محرم‏.‏
وإما أن يكون جواب أحمد كان مطلقا في نفسه، وصورة الحاجة لم يستشعرها نفيًا، ولا إثباتًا، فلا يكون جوابه متناولا لها، فلا يحكى عنه فيها كراهة‏.‏
وإما أن يكون قصد بجوابه المنع العام عند الحاجة وعدمها، وهذا أبعد المحامل الثلاثة أن يحمل عليه كلامه، فإن أصوله وسائر نصوصه في نظائر ذلك تأبي ذلك، وهو ـ أيضًا ـ مخالف لأصول الشريعة، وقد نقل عنه أنه لما مرض وصف له الحمام‏.‏
وكان أبو عبد الله لا يدخل الحمام اقتداء بابن عمر، فإنه كان لا يدخلها، ويقول هي‏:‏ من رقيق العيش، وهذا ممكن في أرض يستغنى أهلها عن الحمام، كما يمكن الاستغناء عن الفِرَاء والحشايا في مثل تلك البلاد‏.‏
والكلام في فصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ في تفصيل حكم ما ذكر من بنائها وبيعها وإجارتها، والأقسام أربعة‏:‏
فإنه لا يخلو‏:‏ إما أن يحتاج إليها من غير محظور، أو لا يحتاج إليها ولا محظور، أو يحتاج إليها مع المحظور، أو يكون هناك محظور من غير حاجة‏.‏
فأما الأول، فلا ريب في الجواز؛ مثل أن يبنى الرجل لنفسه وأهله حماما في البلاد الباردة، ولا يفعل فيها ما نهي الله عنه، فهنا حاجة‏.‏ أو مثل أن يقدر بناء حمام عامة، في بلاد باردة، وصيانتها عن كل محظور، فإن البناء والبيع والكراء هنا بمنزلة دخول الرجل إلى الحمام الخاصة، أو المشتركة مع غض بصره، وحفظ فرجه وقيامه بما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا ريب في جوازه، وقد دخلها غير واحد من الصحابة‏.‏
وأحاديث الرخصة فيها مشهورة‏.‏ كحديث أبي سعيد الخدرى الذي رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏)‏ وعلى هذا اعتمدوا في الصلاة في الحمام‏.‏ وقد أرسله طائفة، وأسنده آخرون، وحكموا له بالثبوت، واستثناؤه الحمام من الأرض، كاستثنائه المقبرة، في كونها مسجدًا دليل على إقرارها في الأرض، وأنه لا ينهي عن الانتفاع بها مطلقا؛ إذ لو كان يجب إزالتها ويحرم بناؤها ودخولها لم تخص الصلاة بالمنع‏.‏
والنهي عن الصلاة في الحمام قد قال بعض الأصحاب‏:‏ كأبي بكر، والقاضي‏:‏ إنه يعيد‏.‏ قيل‏:‏ لأنه محل الشياطين، وفيه وجه‏.‏ وهو التعليل بمظنة النجاسة، والمشهور أن المنع يتناول ما يدخل في البيع، وهو المشْلَح، والمغتسل، والأندر‏.‏
وقد يقال‏:‏ الحمام فعال من الحم، وهو المكان الذي فيه الهواء الحار، والماء الحار يتعرضن فيه‏.‏
فأما المشلح الذي توضع فيه الثياب، وهو بارد لا يغتسل فيه، ولا يقعد فيه إلا المتلبس، فليس هو مكان حمام، والدخول في المنع لا يصلح له تعليل‏.‏
وقد بينا أن المقبرة وأعطان الإبل تصح الصلاة فيهما على الصحيح؛ لعدم تناول اللفظ والمعنى، وإن دخل في المنع إلا أنه يقال‏:‏ لفظ الحمام يعم هذا كله، ولا يعرف حمام ليس فيها هذا المكان‏.‏ وتخلع فيه الثياب هذه هي الحمامات المعروفة، والحمامات الموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم التي يتناولها لفظ الاستثناء الشياطين يتناول ذلك كله‏.‏ كما أن صحن المسجد هو تبع للمسجد، ويشبه أن يكون الكلام فيها، كالكلام في رحبة المسجد، فإن الرحبة الخارجة عن سور المسجد غير الرحبة التي هي صحن مكشوف بجانب المسقوف من المسجد المعد للصلاة، فهذا الثاني نسبته إليه تشبه نسبة خارج الحمام إلى داخله‏.‏
وإذا تبين هذا فنقول‏:‏ إنما تكون الحجة أن لو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه أمكنهم دخوله فلم يدخلوه، وإلا فإذا احتمل مع الإمكان الدخول وعدمه لم يكن فيه حجة‏.‏ وأما الصحابة فقد روي عن ابن عمر أنه لم يدخلها، وكان يقول‏:‏ هي مما أحدث الناس من رقيق العيش، وهذا تنبيه على ما أحدثه الناس من أنواع الفضول التي لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قاله ابن عمر في أرض الحجاز، وبهذا اقتدى أحمد‏.‏ وهذا ترك لها من باب الزهد في فضول المباح‏.‏ والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، ولا ريب أنه إذا لم يكن دخول الحمام مما ينتفع به في أعمال الآخرة كان تركه زهدًا مشروعًا‏.‏
ولتركه وجه آخر‏:‏ وهو أن يكون على سبيل الورع، والورع المشروع هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهذا منه ورع واجب كترك المحرم، ومنه ما هو دون ذلك وهو ترك المشتبهات، التي لا يعلمها كثير من الناس، وغيرها من المكروهات‏.‏
ولا ريب أن في دخول الحمام ما قد يكون محرمًا، إذا اشتمل على فعل محرم، من كشف العورة، أو تعمد النظر إلى عورة الغير، أو تمكن الأجنبي من مس عورته، أو مس عورة الأجنبي، أو ظلم الحمامى بمنع حقه، وصب الماء الزائد على ما اقتضته المعاوضة، أو المكث فوق ما يقابل العوض المبذول له بدون رضاه، أو فعل الفواحش فيها، أو الأقوال المحرمة التي تفعل كثيرًا فيها، أو تفويت الصلوات المكتوبات‏.‏
ومنه ما قد يكون مكروهًا محرمًا، أو غير محرم، مثل صب الماء الكثير، واللبث الطويل مع المعاوضة عنهما، والإسراف في نفقتها، والتعرض للمحرم من غير وقوع فيه، وغير ذلك‏.‏ وكذلك التمتع والترفه بها من غير حاجة إلى ذلك، ولا استعانة به على طاعة الله‏.‏
وقد يكون دخولها واجبًا إذا احتاج إلى طهارة واجبة، لا تمكن إلا فيها، وقد يكون مستحبًا إذا لم يمكن فعل المستحب من الطهارة وغيرها إلا فيها، مثل الأغسال المستحبة التي لا يمكن فعلها إلا فيها ومثل نظافة البدن من الأوساخ التي لا تمكن إلا فيها‏.‏
فإن نظافة البدن من الأوساخ مستحبة‏.‏ كما روى الترمذى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله نظيف يحب النظافة‏)‏ وقد ثبت في الصحيح عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عشر من الفطرة‏:‏ قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء‏)‏ قال مصعب‏:‏ ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة‏.‏ قال وكيع‏:‏ انتقاص الماء يعنى الاستنجاء، وعن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من الفطرة ـ أو قال‏:‏ الفطرة ـ المضمضة والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، والاستحداد، والاختتان، والانتضاح‏)‏ رواه الإمام أحمد‏.‏ وهذا لفظه‏.‏ وأبو داود وابن ماجه‏.‏
وهذه الخصال عامتها إنما هي للنظافة من الدرن، فإن الشارب إذا طال يعلق به الوسخ من الطعام والشراب، وغير ذلك‏.‏ وكذلك الفم إذا تغير ينظفه السواك، والمضمضة، والاستنشاق ينظفان الفم والأنف وقص الأظفار ينظفها مما يجتمع تحتها من الوسخ، ولهذا روى‏:‏ ‏(‏يدخل أحدكم على ورفغه تحت أظفاره‏)‏ يعني الوسخ الذي يحكه بأظفاره من أرفاغه‏.‏
وغسل البراجم وهي عقد الأصابع، فإن الوسخ يجتمع عليها، ما لا يجتمع بين العقد، وكذلك الإبط فإنه يخرج من الشعر عرق الإبط، وكذلك العانة، إذا طالت‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال‏:‏ وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط وحلق العانة، ألا نترك أكثر من أربعين ليلة فهذا غاية ما يترك الشعر، والظفر المأمور بإزالته‏.‏
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏حق اللَّه على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام‏:‏ يغسل رأسه، وجسده‏)‏ وهذا في أحد قولي العلماء، هو
غسل راتب مسنون للنظافة، في كل أسبوع، وإن لم يشهد الجمعة‏.‏ بحيث يفعله من لا جمعة عليه‏.‏ وعن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة‏)‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏ وهذا لفظه، وأبو حاتم البستي‏.‏
وأما الأحاديث في الغسل يوم الجمعة متعددة‏.‏ وذاك يعلل باجتماع الناس بدخول المسجد، وشهود الملائكة، ومع العبد ملائكة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم‏)‏ وعن قيس بن عاصم‏:‏ ‏(‏أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر‏)‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏
وهذان غسلان متنازع في وجوبهما، حتى في وجوب السدر‏.‏ فقد ذكر أبو بكر في ‏[‏المشتبه‏]‏ وجوب ذلك‏.‏ وهو خلاف ما حكى عنه في موضع آخر‏.‏
ومن المعلوم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال بماء وسدر ـ كما أمر بالسدر في غسل المحرم الذي وقصته ناقته، وفي غسل ابنته المتوفاة‏.‏ وكما أمر الحائض ـ أيضًا ـ أن تأخذ ماءها وسدرها ـ إنما هو لأجل التنظيف، فإن السدر مع الماء ينظف‏.‏ ومن المعلوم أن الاغتسال في الحمام أتم تنظيفًا، فإنها تحلل الوسخ بهوائها الحار، ومائها الحار، وما كان أبلغ في تحصيل مقصود الشارع كان أحب، إذا لم يعارضه ما يقتضي خلاف ذلك‏.‏
وأيضًا، فالرجل إذا شعث رأسه واتسخ، وقمل وتوسخ بدنه، كان ذلك مؤذيا له ومضرًا، حتى قد جعل الله هذا مما يبيح للمحرم أن يحلق شعره، ويفتدي‏.‏ كما قال‏:‏‏{وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏أنها نزلت في كعب بن عجرة لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية قبل أن يؤذن لهم في الإحلال، والقمل يتهافت على رأسه‏)‏‏.‏ وقد تكون إزالة هذا الأذى والضرر في غير الحمام إما متعذرة، أو متعسرة‏.‏
فالحمام لمثل هذا مشروعة مؤكدة، وقد يكون به من المرض ما ينفعه فيه الحمام، واستعمال مثل ذلك‏:‏ إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز‏.‏ فإنها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏
وأيضًا، فالحمام قد يحلل عنه من الأبخرة الأوساخ، ويوجب له من الراحة ما يستعين به على ما أمر به من الواجبات والمستحبات، ودخولها حينئذ بهذه النية يكون من جنس الاستعانة بسائر ما يستريح به، كالمنام والطعام‏.‏ كما قال معاذ لأبي موسى‏:‏ إني أنام وأقوم، وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، ونظائره في الحديث الصحيح متعددة، كما في حديث أبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما‏.‏
القسم الثاني‏:‏ إذا خلت عن محظور، في البلاد الباردة أو الحارة فهنا لا ريب أنه لا يحرم بناؤها، وقد بنيت الحمامات على عهد الصحابة في الحجاز، والعراق، على عهد على وغيره، وأقروها‏.‏ وأحمد لم يقل‏:‏ إن ذلك حرام، ولكن كره ذلك، لاشتماله غالبًا على مباح، ومحظور‏.‏
وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى للَّه، وأرعى لحدوده، من أن يكثر فيها المحظور، فلم تكن مكروهة إذ ذاك، وإن وقع فيها أحيانًا محظور، فهذا بمنزلة وقوع المحظور فيما يبنى من الأسواق والدور التي لم ينه عنها، وإن كان يمكن الاستغناء عنها‏.‏
القسم الثالث‏:‏ إذا اشتملت على الحاجة والمحظور غالبًا‏:‏ كغالب الحمامات، التي في البلاد الباردة، فإنه لابد لأهل تلك الأمصار من الحمام، ولابد في العادة أن يشتمل على محظور، فهنا ـ أيضًا ـ لا تطلق كراهة بنائها وبيعها، وذلك لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه‏)‏‏.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 29 يونيو - 12:44


إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام، بخلاف ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي، وابن حامد، ولهذا سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين‏.‏ وله ديون فيها شبهة‏.‏ أيقضيها ولده‏؟‏ فقال‏:‏ أيدع ذمة أبيه مرهونة‏؟‏‏!‏ وهذا جواب سديد، فإن قضاء الدين واجب، وترك الواجب سبب للعقاب، فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب، ويحتمل ألا يكون‏.‏
ومن المعلوم أن من الأغسال ما هو واجب‏:‏ كغسل الجنابة، والحيض، والنفاس، ومنها ما هو مؤكد قد تنوزع في وجوبه، كغسل الجمعة‏.‏ ومنها ما هو مستحب، وهذه الأغسال لا تمكن في البلاد الباردة إلا في حمام‏.‏ وإن اغتسل في غير حمام خيف عليه الموت، أو المرض‏.‏ فلا يجوز الاغتسال في غير حمام حينئذ‏.‏
ولا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة على الاغتسال بالماء في الحمام، ولو قدر أن في ذلك كراهة مثل كون الماء مسخنًا بالنجاسة عند من يكرهه مطلقًا، أو عند من يكرهه إذا لم يكن بين الماء والدخان حاجز حصين، كما قد تنازع في ذلك أصحاب أحمد وغيرهم على القول بكراهة المسخن بالنجاسة، فإنه بكل حال يجب استعماله، إذا لم يمكن استعمال غيره؛ لأن التطهر من الجنابة بالماء واجب مع القدرة، وإن اشتمل على وصف مكروه، فإنه في هذه الحال لا يبقى مكروهًا‏.‏
وكذلك كل ما كره استعماله مع الجواز، فإنه بالحاجة إليه لطهارة واجبة، أو شرب واجب، لا يبقى مكروهًا‏.‏ ولكن هل يبقى مكروها عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبة‏؟‏ هذا محل تردد؛ لتعارض مفسدة الكراهة، ومصلحة الاستحباب‏.‏ والتحقيق‏:‏ ترجيح هذا تارة، وهذا تارة، بحسب رجحان المصلحة تارة، والمفسدة أخرى‏.‏
وإذا تبين ذلك، فقد يقال‏:‏ بناء الحمام واجب حينئذ، حيث يحتاج إليه لأداء الواجب العام‏.‏
وقد يقال‏:‏ إنما يجب الاغتسال فيها عند وجودها، ولا يجب تحصيلها ابتداء، كما لا يجب على الرجل حمل الماء معه للطهارة، ولا إعداد الماء المسخن، فإذا فتحت مدينة وفيها حمام لم يهدم، والحال هذه‏.‏ كما جاءت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين‏.‏ وكذلك من انتقلت إليه بإرث ونحوه، وأما من ملكها باختياره، فالكلام في ملكها ابتداء، فإنه بمنزلة ابتداء بنائها‏.‏
وعلى هذا، فقد يقال‏:‏ نحن إنما نكره بناءها ابتداء، فأما إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها، لما في ذلك من الفساد، وكلام أحمد المتقدم إنما هو في البناء، لا في الإبقاء، والاستدامة أقوى من الابتداء؛ ولهذا كان الإحرام والعدة يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع دوامه، وأهل الذمة يمنعون من إحداث معابدهم، ولا يمنعون من إبقائها إذا دخل ذلك في عهدهم‏.‏
وإذا كان المكروه الابتداء، فالجنب ونحوه إنما يجب عليه استعمال الحمام إذا أمكن، فهذا يفيد وجوب دخول الحمام، إذا كانت موجودة، واحتيج إليها لطهارة واجبة، فلم قلتم‏:‏ إنه يسوغ بناؤها ابتداء لذلك مع اشتماله على محظور‏؟‏ فإن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، وأما ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وهنا الوجوب عند عدم بنائها منتف، فإذا توقفتم في الوجوب فتوقفوا في الإباحة‏.‏
القسم الرابع‏:‏ أن تشتمل على المحظور مع إمكان الاستغناء عنها‏:‏ كما في حمامات الحجاز، والعراق، واليمن‏:‏ في الأزمان المتأخرة، فهذا محل نص أحمد وتجنب ابن عمر‏.
الفصل الثاني
في دخولها
فنقول‏:‏ ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها، أو عدم استحبابه بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها، ولا أبو بكر، وعمر، فإن هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمام، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها، وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب، بأولى من إضافته إلى فوات شرط الدخول، وهو القدرة والإمكان‏.‏
وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراقب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجودًا في الحجاز، فلم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة، ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس‏.‏ ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى‏:‏ كالشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وأرمينية، وأذربيجان، والمغرب، وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم، أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل مثله، ولم يلبس مثله؛ إذ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة الشرعية، وهو أضعف من القول باتفاق العلماء، وسائر الأدلة من أقواله‏:‏ كأمره ونهيه وإذنه، من قول اللهـ تعالى ـ هى أقوى وأكبر، ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية‏.‏
وكذلك إجماع الصحابة ـ أيضًا ـ من أقوى الأدلة الشرعية، فنفي الحكم بالاستحباب لانتفاء دليل معين من غير تأمل باقي الأدلة خطأ عظيم، فإن الله يقول‏:‏‏{ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏، ولم تكن البغال موجودة بأرض العرب، ولم يركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلة إلا البغلة التي أهداها له المقوقس من أرض مصر بعد صلح الحديبية‏.‏ وهذه الآية نزلت بمكة‏.‏ ومثلها في القرآن‏:‏ يمتن الله على عباده بنعمه التي لم تكن بأرض الحجاز كقوله تعالى‏:‏‏{ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24 ـ 31‏]‏‏.‏ ولم يكن بأرض الحجاز زيتون، ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل زيتونًا‏.‏ ولكن لعل الزيت كان يجلب إليهم‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏‏{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏، ولم يكن بأرضهم لا هذا ولا هذا، ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل منهما، وكذلك قوله‏:‏‏{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة‏)‏ وقال تعالى‏:‏‏{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وكذلك قوله‏:‏‏{وَحَدَائِقَ غُلْبًا}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 30‏]‏‏.‏
وكذلك قوله في البحر‏:‏‏{ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}‏ ‏[‏النحل‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏‏{وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏12ـ 14‏]‏، ولم يركب النبي صلى الله عليه وسلم البحر، ولا أبو بكر، ولا عمر، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بمن يركب البحر من أمته غزاة في سبيل الله كأنهم ملوك على الأسرة ـ لأم حَرَام بنت مِلّحان ـ وقالت‏:‏ ادع الله أن يجعلني منهم، فقال‏:‏ ‏(‏أنت منهم‏)‏‏.‏
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطعم ما يجده في أرضه، ويلبس ما يجده، ويركب ما يجده، مما أباحه الله ـ تعالى ـ فمن استعمل ما يجده في أرضه فهو المتبع للسنة‏.‏ كما أنه حج البيت من مدينته‏.‏ فمن حج البيت من مدينة نفسه فهو المتبع للسنة، وإن لم تكن هذه المدينة تلك‏.‏
وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد من يليه من الكفار من المشركين وأهل الكتاب، فمن جاهد من يليه من هؤلاء فقد اتبع السنة، وإن كان نوع هؤلاء غير نوع أولئك؛ إذ أولئك كان غالبهم عربًا، ولهم نوع من الشرك هم عليه، فمن جاهد سائر المشركين تُرْكِهم، وهِنْدِهم وغيرهم، فقد فعل ما أمر الله به‏.‏ وإن كانت أصنامهم ليست تلك الأصنام‏.‏
ومن جاهد اليهود والنصارى فقد اتبع السنة، وإن كان هؤلاء اليهود والنصارى من نوع آخر، غير النوع الذين جاهدهم البنى صلى الله عليه وسلم، فإنه جاهد يهود المدينة‏:‏ كقريظة، والنضير، وبنى قينقاع، ويهود خيبر، وضرب الجزية على نصارى نجران، وغزا نصارى الشام، عربها ورومها، عام تبوك، ولم يكن فيها قتال، وأرسل إليهم زيدًا، وجعفرًا، وعبد الله بن رواحة، قاتلوهم في غزوة مؤتة‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أميركم زيد، فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله ابن رواحة‏)‏‏.‏
وصالح أهل البحرين، وكانوا مجوسًا على الجزية، وهم أهل هجر وفي الصحيح أنه قدم مال البحرين فجعله في المسجد، وما ثاب حتى قسمه، وهذا باب واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع، وميزنا بين السنة والبدعة، وبينا أن السنة هى ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة للَّه ورسوله، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل على زمانه، أو لم يفعله، ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه‏.‏
فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكتبوا عنى غير القرآن، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه‏)‏ فشرع كتابة القرآن؛ وأما كتابة الحديث فنهى عنها أولا، وذلك منسوخ عند جمهور العلماء بإذنه لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه ما سمعه، في الغضب والرضا، وبإذنه لأبي شاه أن تكتب له خطبته عام الفتح، وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لما استعمله على نجران، وبغير ذلك‏.‏
والمقصود هنا أن كتابة القرآن مشروعة، لكن لم يجمعه في مصحف واحد؛ لأن نزوله لم يكن تم، وكانت الآية قد تنسخ بعد نزولها، فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد، حتى مات‏.‏ وكذلك قيام رمضان‏.‏ قد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة‏)‏ وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في آخر الشهر ليالى، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يداوم بهم على الجماعة، خشية أن تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته‏.‏
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏)‏ فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة؛ لكونه ابتدئ‏.‏ كما قال عمر‏:‏ نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل وقد بسطنا ذلك في قاعدة‏.‏
فَصْــل
الماء الجاري في أرض الحمام خارجًا منها، أو نازلاً في بلاليعها، لا يحكم بنجاسته، بل بطهارته، إلا أن تعلم نجاسة شيء منه؛ ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أن الحمام لم ينه عن الصلاة فيها لكونها مظنة النجاسة، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء، وهو وجه في مذهب أحمد‏.‏ ومن قال هذا قال‏:‏ إذا غسلنا موضعًا منها، أو تيقنا طهارته جازت الصلاة فيه‏.‏
وأما على من قال بالنهي مطلقًا، كما في حديث أبي سعيد الذي في سنن أبي داود وغيره ـ وقد صححه من صححه من الحفاظ، وبينوا أن رواية من أرسله لا تنافي الرواية المسندة الثابتة ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏)‏ فاستثنى الحمام مطلقًا، فيتناول الاسم ما دخل في المسمى‏.‏ فلهم طريقان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن النهى تعبد لا يعقل معناه كما ذهب إليه طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم كأبى بكر، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه‏.‏
والثاني‏:‏ أن ذلك لأنها مأوى الشياطين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن الشيطان قال‏:‏ يارب اجعل لي بيتًا، قال‏:‏ بيتك الحمام، قال‏:‏ اجعل لى قرآنًا قال‏:‏ قرآنك الشعر، قال‏:‏ اجعل لي مؤذنًا، قال‏:‏ مؤذنك المزمار‏)‏‏.‏
وهذا التعليل كتعليل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل بنحو ذلك كما في الحديث‏:‏ ‏(‏إن على ذروة كل بعير شيطان‏)‏، ‏(‏وإنها جن خلقت من جن‏)‏؛ إذ لا يصح التعليل هناك بالنجاسة؛ لأنه فرق بين أعطان الإبل، ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء‏.‏ كما لا يصح تعليل الأمر بالوضوء من لحومها؛ بأنه لأجل مس النار مع تفريقه بين لحوم الإبل ولحوم الغنم، وكلاهما في مس النار وعدمه سواء‏.‏
وكذلك تعليل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التراب هو ضعيف، فإن النهي عن المقبرة مطلقًا، وعن اتخاذ القبور مساجد، ونحو ذلك مما يبين‏.‏ أن النهي لما فيه من مظنة الشرك، ومشابهة المشركين‏.‏
وأيضًا، فنجاسة تراب المقبرة فيه نظر، فإنه مبنى على ‏[‏مسألة الاستحالة‏]‏ ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان مقبرة للمشركين، وفيه نخل، وخرب‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطعت، وجعلت قبلة المسجد، وأمر بالخرب فسويت، وأمر بالقبور فنبشت، فهذه مقبرة منبوشة، كان فيها المشركون‏.‏ ثم لما نبش الموتى جعلت مسجدًا مع بقاء ما بقى فيها من التراب، ولو كان ذلك التراب نجسًا لوجب أن ينقل من المسجد التراب النجس، لاسيما إذا اختلط الطاهر بالنجس، فإنه ينبغي أن ينقل به زوال النجاسة، ولم يفعل ذلك، ولم يؤمر باجتناب ذلك التراب، ولا بإزالة ما يصيب الأبدان والثياب منه‏.‏
فتبين أن الحكم معلق بظهور القبور، لا بظن نجاسة التراب‏.‏
وأيضًا، من علل ذلك بالنجاسة، فإن غايته أن يكره الصلاة عند الاحتمال، كما قاله من كره الصلاة في المقبرة والحمام، والأعطان، ولم يحرمها كما ذهب إليه طائفة من العلماء، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن السنة فرقت بين معاطن الإبل، ومبارك الغنم؛ ولأنه استثنى كونها مسجدًا، فلم تبق محلاً للسجود؛ ولأنه نهى عن ذلك نهيًا مؤكدًا بقوله قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏
ولأنه لعن على ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏؛ يحذر ما فعلوا ولأنه جعل مثل هؤلاء شرار الخليقة بقوله‏:‏ ‏(‏إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏)‏‏.‏
وأيضًا، فإنه قد ثبت بسنته أن احتمال نجاسة الأرض لا يوجب كراهة الصلاة فيها، بل ثبت بسنته أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة ‏.‏ كما هو قول طوائف من العلماء‏:‏ كأبي حنيفة، والشافعي، في قول، ومالك في قول، وهو أحد القولين في مذهب أحمد ‏.‏ فإنه ثبت أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏.‏ وثبت في الصحيح عنه أنه كان يصلي في نعليه، وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه‏:‏ فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور‏)‏ فإذا كان قد جعل التراب يطهر أسفل الخف فلأن يطهر نفسه أول وأحرى‏.‏
وأيضًا، فمن المعلوم‏:‏ أن غالب طرقات الناس تحتمل من النجاسة، نحو ما تحتمله المقبرة والحمام‏.‏ أو نحو ذلك أو أكثر من ذلك، فلو كان ذلك سبب النهي عن الصلاة في النعال مطلقًا؛ لأن هذا الاحتمال فيها أظهر‏.‏ فهذه السنن تبطل ذلك التعليل من وجهين‏:‏
من جهة أن هذا الاحتمال لم يلتفت إليه، ومن جهة أن التراب مطهر لما يلاقيه في العادة‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 29 يونيو - 12:46


والمقصود هنا‏.‏ الكلام في الماء الجاري في الحمام فنقول‏:‏ إن كراهة هذا الماء وتوقيه، وغسل ما يصيب البدن والثوب منه، إما أن يكون على جهة الاستقذار، وإما أن يكون على جهة النجاسة‏.‏
أما الأول فكما يغسل الإنسان بدنه وثيابه من الوسخ والدنس، ومن الوحل الذي يصيبه، ومن المخاط والبصاق، ومن المني على القول بطهارته، وأشباه ذلك‏.‏ ومثل هذا قد يكون في المياه المتغيرة بمقرها وممازجها ونحو ذلك‏.‏ وهذا نوع غير النوع الذي نتكلم فيه الآن‏.‏
وأما اجتناب ذلك على جهة تنجيسه، فحجته أن يقال‏:‏ إن هذا الماء في مظنة أن تخالطه النجاسة، وهو ما يكون في الحمام من القيء والبول‏:‏ فإن هذه النجاسة التي قد تكون في الحمام‏.‏ فأما العذرة أو الدم، أو غير ذلك، فلا تكاد تكون في الحمام‏.‏ وإن كان فيها نادرًا تميز وظهر‏.‏
وأيضًا، فقد يزال به نجاسة تكون على البدن، أو الثياب‏.‏ فإن كثيرًا ممن يدخل الحمام يكون على بدنه نجاسة، إما من تخلي، وإما من مرض، وإما غير ذلك، فيغسلها في الحمام‏.‏ وكذلك بعض الآنية قد يكون نجسًا، وقد يكون بعض ما يغسل فيها من الثياب نجسًا‏.‏
وأيضًا، فهذا الماء كثيرًا ما يكون فيه الماء المستعمل في رفع الحدث وهو نجس عند من يقول بنجاسته، فهذه الحجة المعتمدة‏.‏
والجواب عنها مبني على أصول ثلاثة‏:‏
أحدها‏:‏ الجواب فيه من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن يقال‏:‏ الماء الفائض مـن حياض الحمام، والمصبوب على أبدان المغتسلين، أو على أرض الحمام طاهر بيقـين، ومـا ذكر مشكوك في إصابته لهذا الماء المعين، فإنه وإن تيقـن أن الحمام يكـون فيـه مثل هذا فلم يتيقن أن هذا الماء المعين أصابه هذا، واليقين لا يزول بالشك‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن يقال هذا بعينه وارد في طين الشوارع لكثرة ما يصيبه من أبوال الدواب، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم بطهارته، بل النجاسة في طين الشوارع أكثر، وأثبت‏.‏ فإن الحمام وإن خالط بعض مياهها نجاسة، فإنه يندفع، ولا يثبت بخلاف طين الشوارع‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ كما أن الأصل عدم النجاسة، فالظاهر موافق للأصل، وذلك أنا إذا اعتبرنا ما تلاقيه النجاسة في العادة، وما لا تلاقيه كان ما لا تلاقيه أكثر بكثير‏.‏ فإن غالب المياه الجارية في أرض الحمام لا يلاقيها في العادة نجاسة، وإذا اتفق الأصل والظاهر، لم تبق المسألة من موارد النزاع، بل من مواقع الإجماع‏.‏ ولهذا قلت‏:‏ إنه لا يستحب غسل ذلك تنجسًا، فإنه وسواس‏.‏
ولنا فيما إذا شك في نجاسة الماء هل يستحب البحث عن نجاسته‏.‏ وجهان‏:‏ أظهرهما لا يستحب البحث، لحديث عمر‏.‏ وذلك لأن حكم الغائب إنما يثبت بعد العلم في الصحيح، الذي هو ظاهر مذهب أحمد، ومذهب مالك وغيرهما، ولا إعادة على من لم يعلم ـ أن عليه نجاسة‏.‏ وهذا وإن كان في اجتنابها في الصلاة فمسألة إصابتها لنا فيها ـ أيضًا ـ وجهان‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أنا إذا قدرنا أن الغالب التنجس، فقد يعارض الأصل والظاهر، وفي مثل هذا كثيرًا ما يجيء قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، كثياب الكفار ونحو ذلك، لكن مع مشقة الاحتراز ـ كطين الشوارع ـ يرجحون الطهارة، وإذا قيل بالتنجيس في مثل هذا عفي عن يسيره‏.‏
الأصل الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ هب أن هذا الماء خالطته نجاسة، لكنه ماء جار، فإنه ساح على وجه الأرض، والماء الجاري إذا خالطته نجاسة ففيه للعلماء قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة، وهذا أصح القولين، وهو مذهب مالك، وأحمد في أحد القولين، اللذين يدل عليهما نصه، وهو مذهب أبي حنيفة، مع شدة قوله في الماء الدائم وهو القول القديم للشافعي‏.‏ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم، والاغتسال فيه، دليل على أن الجاري بخلاف ذلك‏.‏ وهو دليل على أنه لا يضره البول فيه، والاغتسال فيه‏.‏
وأيضًا، فإنـه طاهر لم يتغير بالنجاسة، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تنجيسه، فـإن الذين يقـولون ‏:‏ إن الماء الجاري كالدائم تعتـبر فيـه القلتان،فـإذا كـانت الجـريـة أقـل مـن قلتين، نجسـته‏.‏ كما هـو الجـديد مـن قولى الشافعي، وأحـد القولين في مذهب أحمـد، فـإنه لا حجـة لهم في هذا، ولا أثر عن أحد من السلف، إلا التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏ وقياس الجاري على الدائم، وكلاهما لا حجة فيه‏.‏
أمـا الحـديث فمنطـوقـه لا حجـة فيـه، وإنما الحجة في مفهومه، ودلالة مفهوم المخالفة لا تقتضي عموم مخالفة المنطوق في جميع صور المسكوت بل تقتضي أن المسكـوت ليس كالمنطـوق، فـإذا كـان بينهما نـوع فـرق ثبت أن تخصيص أحـد النـوعين بالذكـر مع قيام المقتضي للتعمـيم كـان لاختصاصه بالحكم‏.‏ فإذا قال‏:‏ إذا بلغ الماء قلتـين لم يحمـل الخبث، دل أنـه إذا لم يبلغ قلتين لم يكن حكمه كذلك، فإذا كـان ما لم يبلغ فرق فيه بين الماء الجاري والدائم حصل المقصود، لاسيما والحديث ورد جوابًا عن سؤالهم عن الماء الدائم الذي يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من السباع والدواب، فيبقى قوله‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏ الوارد في بئر بُضَاعة متناولا للجاري‏.‏ والفرق أن الجاري له قوة دفع النجاسة عن غيره، فإنه إذا صب على الأرض النجسة طهرها، ولم يتنجس، فكيف لا يدفعها عن نفسه؛ ولأن الماء الجاري يحيل النجاسة بجريانه‏.‏
وأيضًا، فإن القياس‏:‏ هل هو تنجيس الماء بمخالطة النجاسة‏؟‏ أو عدم تنجيسه حتى تظهر النجاسة‏؟‏ فيه قولان للأصحاب وغيرهم‏.‏
فمن قال بالأول، قال‏:‏ العفو عما فوق القلتين‏:‏ كان للمشقة؛ لأنه يشق حفظه من وقوع النجاسة فيه؛ لأنه غالبًا يكون في الحياض والغدران والآبار، بخلاف القليل، فإنه يكون في الأواني، وهذا المعنى موجود في الجاري، فإنَّ حِفّظَه من النجاسة أصعب من حفظ الدائم الكثير‏.‏
ومن قال بالثاني وأن الأصل الطهارة حتى تظهر النجاسة، كان التطهير على قوله أوكد، فإن القليل الدائم نجس؛ لأنه قد يحمل الخبث، كما نبه عليه الحديث‏.‏ وأما الجاري فإنه بقوة جريانه يحيل الخبث فلا يحمله، كما لا يحمله الكثير‏.‏
وإذا كان كذلك، فهذه المياه الجارية في حمام إذا خالطها بول أو قيء أو غيرهما، كانت نجاسـة قـد خالطت مـاءً جـاريًا، فلا ينجس إلا بالتغير، والكلام فيما لم تظهر فيه النجاسة‏.‏
وإن قيل‏:‏ إن ماء الحمام يخالطه السدر، والخطمى، والتراب، وغير ذلك مما يغسل به الرأس، والأشنان والصابون والحناء وغير ذلك من الطاهرات التي تختلط به، حتى لا تظهر فيه النجاسة‏.‏
قيل‏:‏ إذا جاز أن تكون النجاسة ظاهرة فيه، وجاز ألا تكون ظاهرة، فالأصل عدم ظهورها، وإذا كان قد علم أنه تخالطه الطاهرات، ورأيناه متغيرًا، أحلنا التغير على مخالطة الطاهرات؛ إذ الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، لا إلى المقدر المظنون‏.‏ بل قد ثبت النص بذلك فيما أصله الحظر، كالصيد إذا جرح، وغاب، فإنه ثبت بالنص إباحته، وإن جاز أن يكون قد زهق بسب آخر أصابه، فزهوقه إلى السبب المعلوم، وهو جرح الصائد أو كلبه؛ وإن كان في المسألة أقوال متعددة، فهذا هو الصواب الذي ثبت بالنص الصحيح الصريح‏.‏
الأصل الثالث‏:‏ أن نقول‏:‏ هب أن الماء تنجس، فإنه صار نجاسة على الأرض، والنجاسة إذا كانت على الأرض بولاً كانت أو غير بول فإنه يطهر بصب الماء عليها، إذا لم تبق عينها‏.‏ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث قال‏:‏ ‏(‏لا تزرموه‏)‏ أى لا تقطعوا عليه بوله‏.‏ ‏(‏فصبوا على بوله ذنوبًا من ماء‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين‏)‏‏.‏
ولهذا قال أصحاب أحمد وغيره‏:‏ إن نجاسة الأرض والبرك والحياض المبنية ونحو ذلك، مما لا ينقل ويحول، يخالف النجاسة على المنقول من الأبدان والثياب والآنية، من ثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه لا يشترط فيها العدد‏.‏ لا من ولوغ الكلب ولا غيره‏.‏
الثاني‏:‏ أنه لا يشترط فيها الانفصال، عن موضع النجاسة‏.‏
الثالث‏:‏ أن الغسالة طاهرة قبل انفصالها عن موضع النجاسة‏.‏
وإذا كان كذلك فنقول‏:‏ ما كان على أرض الحمام من بول وغيره، فإنه قد جرى عليه الماء بعد ذلك، فطهرت الأرض مع طهارة الغسالة، وإذا كانت غسالة الأرض طاهرة زالت الشبهة بالكلية، فإنه إن قال قائل‏:‏ قد يكون من الماء ما تزال به نجاسة عن البدن أو آنية، أو ثوب‏.‏
قيـل له‏:‏ فهـذه إذا كـانت نجسـة وأصابت الأرض لم تكـن أعظم مـن البـول المصيب الأرض، وإذا كـانت تلك النجاسـة تـزول مـع طهارة الغسالـة قبل الانفصال فـهذه أولى، وليس له أن يقـول‏:‏ النجاسـة منتفيــة، ومـرور الماء المطهـر مشكوك فيـه، لاسيما وقـد يكـون ذلك المـاء المـار مما لا يزيـل النجاسـة، لكـونه مستعملا‏.‏ أو لتغيره بالطاهرات؛ لأنه يقال لـه‏:‏ ليس الكـلام في نجاسـة معينة منتفية مشكوك في زوالها، وإنما الكلام فيما يعتاد‏.‏
ومـن المعلـوم بالعادات أن الماء المطهـر، والجاري على أرض الحمام، أكثر من النجاسـات بكثـير كثير‏.‏ فيكـون ذلك المـاء قد طهر ما مر عليه من نجس‏.‏ فإن اغتسال الناس مـن غير حدث ولا نجس في الحمامات أكثر من اغتسالهم من إحدى هاتين الطهارتين، وهـم يصبون على أبدانهم من الماء القراح الذي ينفصل غير متغير أكثر من غـيره، وإن كـان فيـه تغير يسير بيسير السدر والأشنان، فهذا لا يخرجه عن كونه مطهرًا، بل الراجـح مـن القولين ـ وهو إحدى الروايتين عن أحمد التي نصها في أكثر أجوبته ـ‏:‏ أن الماء المتغير بالطاهر كالحمص والباقلاء، لا يخرج عن كونه طهورًا، ما دام اسم الماء يتناوله كالماء المتغير بأصل الخلقة، كماء البحر وغيره، وما تغير بما يشق صونه عنه من الطحلب، وورق الشجر، وغيرهما، فإن شمول اسم الماء في اللغة لهذه الأصناف الثلاثة واحد‏.‏
فإن كان لفظ الماء في قوله‏:‏‏{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ يتناول أحد هذه الأصناف، فقد تناول الآخرين، وقد ثبت أنه متناول للمتغير ابتداء، وطردًا لما يشق الاحتراز عنه، فيتناول الثالث؛ إذ الفرق إنما يعود إلى أمر معهود، وهو أن هذا يمكن الاحتراز عنه، وهذا لا يمكن، وهذا الفرق غير مؤثر في اللغة، ويتناول اللفظ لمعناه، وشمول الاسم مسماه، فيحتاج المفرق إلى دليل منفصل‏.‏ وقد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته‏:‏ ‏(‏اغسلوه بماء وسدر‏)‏ وكذلك قال للاتي غسلن ابنته‏:‏ ‏(‏اغسلنها بماء وسدر‏)‏ وللذي أسلم‏:‏ ‏(‏اغتسل بماء وسدر‏)‏ وهذا فيه كلام ليس هذا موضعه‏.‏
وإذا تبين ما ذكرناه ظهر عظيم البدعة، وتغيير السنة والشرعة، فيما يفعله طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين من فرط الوسوسة في هذا الباب، حتى صاروا إنما يفعلونه مضاهين لليهود، بل للسامرية الذين يقولون ‏:‏ لا مساس‏.‏
وباب التحليل والتحريم ـ الذي منه باب التطهير والتنجيس ـ دين الإسلام فيه وسط بين اليهود والنصارى، كما هو وسط في سائر الشرائع، فلم يشدد علينا في أمر التحريم والنجاسة كما شدد على اليهود، الذين حرمت عليهم طيبات أحلت لهم بظلمهم وبغيهم، بل وضعت عنا الآصار والأغلال، التي كانت عليهم، مثل قرض الثوب ومجانبة الحائض في المؤاكلة، والمضاجعة، وغير ذلك‏.‏ ولم تحلل لنا الخبائث كما استحلها النصارى، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فلا يجتنبون نجاسة، ولا يحرمون خبيثًا، بل غاية أحدهم أن يقول طهر قلبك، وصل‏.‏ واليهودي إنما يعتني بطهارة ظاهره لا قلبه، كما قال تعالى عنهم‏:‏‏{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏
وأما المؤمنون، فإن الله طهر قلوبهم وأبدانهم من الخبائث، وأما الطيبات، فأباحها لهم، والحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى‏.
وَسُئِلَ عمن يدخل الحمام هل يجوز له كشف العورة في الخلوة‏؟‏ وما هو الذي يفعله من آداب الحمام‏؟‏
فأجاب‏:‏
لا يلزم المتطهر كشف عورته، لا في الخلوة، ولا في غيرها، إذا طهر جميع بدنه‏.‏ لكن إن كشفها في الخلوة لأجل الحاجة‏:‏ كالتطهر، والتخلي، جاز كما ثبت في الصحيح أن موسى ـ عليه السلام ـ اغتسل عريانًا، وأن أيوب ـ عليه السلام ـ اغتسل عريانًا وفي الصحيح أن فاطمة‏:‏ كانت تستر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح بثوب وهو يغتسل، ثم صلى ثماني ركعات وهي التي يقال لها صلاة الضحى‏.‏ ويقال‏:‏ إنها صلاة الفتح، وفي الصحيح ـ أيضًا ـ أن ميمونة سترته فاغتسل‏.‏
وعلى داخل الحمام أن يستر عورته، فلا يمكن أحدًا من نظرها ولا لمسها، سواء كان القيم الذي يغسله أو غيره، ولا ينظر إلى عورة أحد ولا يلمسها، إذا لم يحتج إلى ذلك لأجل مداواة أو غيرها، فذاك شيء آخر‏.‏ وعليه أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر بحسب الإمكان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏)‏ فيأمر بتغطية العورات فإن لم يمكنه ذلك وأمكنه أن يكون حيث لا يشهد منكرًا فليفعل ذلك، إذ شهود المنكر من غير حاجة ولا إكراه منهي عنه‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 29 يونيو - 12:47


وليس له أن يسرف في صب الماء؛ لأن ذلك منهي عنه مطلقًا، وهو في الحمام ينهي عنه لحق الحمامي؛ لأن الماء الذي فيها مال من أموال له قيمة، وعليه أن يلزم السنة في طهارته؛ فلا يجفو جفاء النصارى، ولا يغلو غلو اليهود‏.‏ كما يفعل أهل الوسوسة، بل حياض الحمام طاهرة، ما لم تعلم نجاستها، سواء كانت فائضة أو لم تكن، وسواء كانت الأنبوب تصب فيها، أو لم تكن، وسواء بات الماء أو لم يبت، وسواء تطهر منها الناس أو لم يتطهروا‏.‏ فإذا اغتسل منها جماعة جاز ذلك، فقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق فهذا إناء صغير لا يفيض، ولا أنبوب فيه، وهما يغتسلان منه جميعًا، وفي لفظ‏:‏ فأقول‏:‏ دع لي ويقول‏:‏ دعي لي‏.‏
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر‏:‏ أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد‏.‏ وقد ثبت عنه أنه كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع‏.‏ والصاع عند أكثر العلماء يكون بالرطل المصري أقل من خمسة أرطال، نحو خمسة إلا ربعًا، والمد ربع ذلك‏.‏ وقيل ‏:‏هو نحو من سبعة أرطال بالمصري‏.‏
وليس للإنسان أن يقول‏:‏ الطاسة إذا وقعت على أرض الحمام تنجست، فإن أرض الحمام الأصل فيها الطهارة، وما يقع فيها من نجاسة كبول فهو يصب عليه من الماء ما يزيله، وهو أحسن حالا من الطرقات بكثير، والأصل فيها الطهارة، بل كما يتيقن أنه لابد أن يقع على أرضها نجاسة، فكذلك يتيقن أن الماء يعم ما تقع عليه النجاسة، ولو لم يعلم ذلك، فلا يجزم على بقعة بعينها أنها نجسة، إن لم يعلم حصول النجاسة فيها‏.‏ والله أعلم‏.‏
مَا تقول السَّادة العُلمَاء ـ رضي الله عَنهم أجمعين ـ فيمن دخل الحمام بلا مئزر، مكشوف العورة‏:‏ هل يحرم ذلك أم لا‏؟‏ وهل يجب على ولي الأمر منع من يفعل ذلك أم لا‏؟‏ وهل يجب على ولي الأمر ـ أيضًا ـ أن يلزم مستأجر الحمام ألاّ يمكن أحدًا من دخول حمامه مكشوف العورة أم لا‏؟‏ وفيمن يقعد في الحمام وقت صلاة الجمعة ويترك الصلاة‏:‏ هل يمنع من ذلك أم لا‏؟‏ أفتونا، وابسطوا القول في ذلك‏.‏
فأجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام، الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية‏:‏
الحمد للَّه، نعم يحرم عليه ذلك باتفاق الأئمة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي الناس عن الحمام ‏[‏بغير مئزر‏]‏، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر‏)‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏نهي النساء من الدخول مطلقًا إلا لمعذرة‏)‏ وفي الحديث الثابت عنه الذي استشهد به البخاري حديث معاوية بن حيدة القشيري أنه قال له‏:‏‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ فإذا كان القوم بعضهم في بعض‏؟‏ قال‏:‏ إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها، قال‏:‏ قلت‏:‏ يارسول الله، إذا كان أحـدنا خاليا، قال‏:‏ ‏(‏ فاللَّه أحق أن يستحيى منه من الناس‏)‏‏.‏ أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال‏:‏ حسن‏.‏ وابن ماجه‏.‏
وعلى ولاة الأمور النهي عن ذلك، وإلزام الناس بألا يدخل أحد الحمام مع الناس إلا مستور العورة، وإلزام أهل الحمام بأنهم لا يمكنون الناس من دخول حماماتهم إلا مستوري العورة، ومن لم يطع الله ورسوله وولاة الأمر من أهل الحمام، والداخلين، عوقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله من أهل الفواحش، الذين لا يستحيون لا من الله ولا من عباده؛ فإن إظهار العورات من الفواحش‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏، وغض البصر واجب عما لا يحل التمتع بالنظر إليه‏:‏ من النسوة الأجنبيات، ونحو ذلك، وعن العورات، وإن لم يكن بالنظر إليها لذة لفحش ذلك‏.‏
ولهذا كان على داخل الحمام أن يغض بصره عمن كان مكشوف العورة، وإن كان ذلك الرجل قد عصى بكشفها، وعليه أن يأمر المكشوف بالاستتار، فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يجب على الناس، وكذلك حفظ الفروج يكون عن الاستمتاع المنهي عنه، وعن إظهارها لمن ليس له أن يراها‏.‏ كما ينهي الرجل عن مس عورة غيره، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يباشر الرجل الرجل في ثوب واحد، وأن تباشر المرأة المرأة في ثوب واحد، وأمر بالتفريق في المضاجع بين الصبيان إذا بلغوا عشر سنين‏.‏ كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتـك، أو ما ملكت يمينك‏)‏ لما قال له‏:‏ يا رسول الله عوراتنا، ما نأتي‏؟‏ وما نذر‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ فإذا كان القوم بعضهم في بعض، قال‏:‏ ‏(‏إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ فإذا كان أحدنا خاليًا، قال‏:‏ ‏(‏فاللَّه أحق أن يستحيى منه من الناس‏)‏ فأمر بسترها في الخلوة‏.‏ وهذا واجب عند أكثر العلماء‏.‏
وأما إذا اغتسل في مكان خال بجنب حائط أو شجرة ونحو ذلك في بيته أو حمام أو نحو ذلك فإنه يجوز له كشفها في هذه الصورة، عند الجمهور‏.‏ كما ثبت في الصحيح‏:‏ أن موسى اغتسل عريانًا وأن أيوب‏:‏ اغتسل عريانًا وأن فاطمة كانت تستر النبي صلى الله عليه وسلم بثوب ثم يغتسل‏.‏
وهذا كشف للحاجة بمنزلة كشفها عند التخلى والجماع بمقدار الحاجة ولهذا كره العلماء للمتخلي أن يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض‏.‏
وتنازعوا في نظر كل من الزوجين إلى عورة الآخر‏:‏ هل يكره أو لا يكره‏؟‏ أم يكره وقت الجماع خاصة‏؟‏ على ثلاثة أقوال معروفة، في مذهب أحمد، وغيره‏.‏
وقد كره غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره النزول في الماء بغير مئزر، ورووا عن الحسن والحسين أو أحدهما أنه كره ذلك، وقال‏:‏ إن للماء سكانًا‏.‏
وأما فتح الحمام وقت صلاة الجمعة، وتمكين المسلمين من دخولها هذا الوقت، وقعودهم فيها تاركين لما فرضه الله عليهم من السعي إلى الجمعة، فهذا ـ أيضًا ـ محرم باتفاق المسلمين، وقد حرم الله بعد النداء إلى الجمعة البيع الذي يحتاج إليه الناس في غالب الأوقات، وكان هذا تنبيها على ما دونه، من قعود في الحمام، أو بستان، أو غير ذلك، والجمعة فرض باتفاق المسلمين، فلا يجوز تركها لغير عذر شرعي، وليس دخول الحمام من الأعذار باتفاق المسلمين، بل إن كان لتنعم كان آثما عاصيًا، وإن كانت عليه جنابة أمكنه الاغتسال قبل ذلك، وليس له أن يؤخر الاغتسال، ولا يجوز ترك الصلاة‏.‏
بل على ولاة الأمور أمر جميع من تجب عليه الجمعة بها من أهل الأسواق والدور وغيرهم، ومن تخلف عن هذا الواجب عوقب على ذلك عقوبة تحمله وأمثاله على فعل ذلك‏.‏ فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه‏)‏‏.‏
وهذا الذي ذكرناه من وجوب أمر من تجب عليه الجمعة بها، ونهيه عما يمنعه من الجمعة متفق عليه بين الأئمة‏.‏ والله أعلم‏.‏ كتبه أحمد بن تيمية‏.‏
وقال شيخ الإسلاَم ـ رَحِمهُ الله ‏:‏
الحمد للَّه، وحسبي الله ونعم الوكيل، يحرم كشف العورة في الحمام وغيره من غير مسوغ شرعي، وعلى ولي الأمر ـ أيده الله ـ منع من يفعل ذلك بطريقة شرعية، وعليه ـ أيضًا ـ إلزام مستأجر الحمام بألا يمكن أحدًا من دخوله على الوجه الممنوع، ولا يحل لأحد ممن خوطب بأداء الجمعة تركها من غير عذر، وليس دخول الحمام بمجرده عذرًا في تركها والله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن ترك دخول الحمام‏؟‏
فأجاب‏:‏
من ترك دخول الحمام لعدم حاجته إليه فقد أحسن، ومن دخلها مع كشف عورته، والنظر إلى عورات الناس، أو ظلم الحمامي فهو عاص مذموم، ومن تنعم بها لغير حاجة فهو منقوص مرجوح، ومن تركها مع الحاجة إليها حتى يكثر وسخه وقمله فهو جاهل مذموم‏.‏
وَسُئِلَ عن رجل عامي سئل عن عبور الحمام‏؟‏ ونقل حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم ذلك، وأسند الحديث إلى كتاب مسلم هل صح هذا أو لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
ليس لأحد، لا في كتاب مسلم، ولا غيره من كتب الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم الحمام، بل الذي في السنن أنه قال‏:‏ ‏(‏ستفتحون أرض العجم وتجدون فيها بيوتًا يقال لها الحمامات، فمن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن باللَّه واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام إلا مريضة أو نفساء‏)‏‏.‏
وقد تكلم بعضهم في هذا الحديث‏.‏
والحمام من دخلها مستور العورة، ولم ينظر إلى عورة أحد، ولم يترك أحدًا يمس عورته ولم يفعل فيها محرمًا، وأنصف الحمامي، فلا إثم عليه، وأما المرأة فتدخلها للضرورة مستورة العورة‏.‏
وهل تدخلها إذا تعودتها وشق عليها ترك العادة‏؟‏ فيه وجهان في مذهب أحمد وغيره‏.‏
أحدهما‏:‏ لها أن تدخلها، كقول أبي حنيفة واختاره ابن الجوزي‏.‏
والثاني‏:‏ لا تدخلها، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، وأحمد، وغيرهما‏.‏ والله أعلم‏.
وسُئِلَ شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏
أيما أفضل للجنب أن ينام ذ وضوء‏؟‏ أو يكره له النوم على غير وضوء‏؟‏ وهل يجوز له النوم في المسجد إذا توضأ من غير عذر أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
الجنب يستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يعاود الوطء، لكن يكره له النوم إذا لم يتوضأ، فإنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل يرقد أحدنا وهو جنب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم، إذا توضأ للصلاة‏)‏ ويستحب الوضوء عند النوم لكل أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل‏:‏ ‏(‏إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم قل‏:‏ اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت‏)‏‏.‏
وليس للجنب أن يلبث في المسجد،لكن إذا توضأ جاز له اللبث فيه عند أحمد وغيره، واستدل بما ذكره بإسناده عن هشام بن سعد‏:‏ أن أصحاب رسول الله كانوا يتوضؤون وهم جنب‏.‏ ثم يجلسون في المسجد‏.‏ ويتحدثون‏.‏ وهذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمر الجنب بالوضوء عند النوم، وقد جاء في بعض الأحاديث أن ذلك كراهة أن تقبض روحه وهو نائم، فلا تشهد الملائكة جنازته، فإن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جنب‏)‏ وهذا مناسب لنهيه عن اللبث في المسجد فإن المساجد بيوت الملائكة، كما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن آكل الثوم والبصل عند دخول المسجد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم‏)‏‏.‏
فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب بالوضوء عند النوم، دل ذلك على أن الوضوء يرفع الجنابة الغليظة، وتبقي مرتبة بين المحدث وبين الجنب ولم يرخص له فيما يرخص فيه للمحدث من القراءة، ولم يمنع مما يمنع منه الجنب من اللبث في المسجد، فإنه إذا كان وضوؤه عند النوم يقتضي شهود الملائكة له، دل على أن الملائكة تدخل المكان الذي هو فيه إذا توضأ؛ ولهذا يجوز الشافعي وأحمد للجنب المرور في المسجد، بخلاف قراءة القرآن، فإن الأئمة الأربعة متفقون على منعه من ذلك؛ فعلم أن منعه من القرآن أعظم من منعه من المسجد‏.‏
وقد تنازع العلماء في منع الكفار من دخول المسجد، والمسلمون خير من الكفار، ولو كانوا جنبًا، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة لما لقيه وهو جنب، فانخنس منه فاغتسل ثم أتاه فقال‏:‏ ‏(‏أين كنت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ إني كنت جنبًا فكرهت أن أجالسك إلا على طهارة، فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله‏!‏ إن المؤمن لا ينجس‏)‏‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فلبث المؤمن الجنب إذا توضأ في المسجد أولى من لبث الكافر فيه عند من يجوز ذلك، ومن منع الكافر لم يجب أن يمنع المؤمن المتوضئ، كما نقل عن الصحابة‏.‏
وإذا كان الجنب يتوضأ عند النوم، والملائكة تشهد جنازته حينئذ، علم أن النوم لا يبطل الطهارة الحاصلة بذلك، وهو تخفيف الجنابة، وحينئذ فيجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره، وإذا كان النوم الكثير ينقض الوضوء، فذاك هو الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر، ووضوء الجنب هو تخفيف الجنابة، وإلا فهذا الوضوء لا يبيح له ما يمنعه الحدث الأصغر‏:‏ من الصلاة، والطواف ومس المصحف‏.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
ابن النيل
المراقب العام
المراقب العام
ابن النيل


عدد المساهمات : 3519
السرطان العمر : 37

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 29 يونيو - 14:14



اخى الغالى احمد المصرى

تسلم على هذا الموضوع القيم

بارك الله فيك وجزاك الجنة

دمت فى حفظ الرحمن

تحيــــــــــــــــاتى



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابواحمد
مشــــــرف
ابواحمد


عدد المساهمات : 1888
السرطان العمر : 49
الموقع : مصرى واعتز ان اكون مصرى

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأربعاء 29 يونيو - 17:34

مشكور يامصرى وجزاك الله خير بارك الله فيك وجعلة في ميزان حسناتك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 30 يونيو - 11:36

ابن النيل الغالى

وابو احمد حبيبى مشكوووووووووور ليكم على مروركم الطيب

وربى يجعلكم من اهل الجنه يارب

بارك الله فيكم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: باب التيمم    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 30 يونيو - 11:41

باب التيمم

قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ‏:‏
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا‏.‏
قال الله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏
والتيمم في اللغة‏:‏ هو القصد، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، ومنه قول امرئ القيس‏:‏
تيممت الماء الذي دون ضارج ** يميل عليها الظل عرمضها طامي
العرماض‏:‏ الطحلب‏.‏ لكن لما قال الله تعالى‏:‏ ‏{فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏، كان التيمم المأمور به هو تيمم الصعيد الطيب، للتمسح به، فصار لفظ التيمم إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى هذا التيمم الخاص، وقد يراد بلفظ التيمم نفس مسح اليدين والوجه، فسمي المقصود بالتيمم تيممًا‏.‏
وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين، ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏.‏ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏، وهذا لفظ البخاري‏.‏
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏فضلت على الأنبياء بست‏:‏ أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون‏)‏‏.‏
ولمسلم ـ أيضًا ـ عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فضلت على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء‏)‏‏.‏ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت‏.‏ وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم‏)‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ نكرة في سياق الإثبات كقوله‏:‏ ‏{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وهذه تسمي مطلقة، وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، فيدل ذلك على أنه يتيمم أي صعيد طيب، اتفق‏.‏ والطيب هو الطاهر، والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع، وفيما سواه نزاع سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
وقوله‏:‏‏{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ قد اتفق القراء السبعة على قراءة أيديكم بالإسكان؛ بخلاف قوله في الوضوء‏:‏ ‏{وَأَرْجُلَكُمْ}‏ فإن بعض السبعة قرأوا‏:‏ ‏{وأرجلَكم}‏ بالنصب، قالوا‏:‏ إنها معطوفة على المغسول، تقديره‏:‏ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وأرجلكم إلى الكعبين كذلك‏.‏ قال علي بن أبي طالب وغيره من السلف‏:‏ قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ قرأ على الحسن والحسين‏:‏ ‏{وأرجلكم إلى الكعبين}‏ بالخفض فسمع ذلك علي بن أبي طالب، وكان يقضي بين الناس فقال‏:‏ وأرجلكم يعني بالنصب، وقال‏:‏هذا من المقدم المؤخر في الكلام‏.‏ وكذلك ابن عباس قرأها بالنصب، وقال‏:‏ عاد الأمر إلى الغسل، ولا يجوز أن يكون ذلك عطفًا على المحل، كما يظنه بعض الناس كقول بعض الشعراء‏:‏
معاوي‏:‏ إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فإنما يسوغ في حرف التأكيد مثل المباني، وأما حروف المعاني فلا يجوز ذلك فيها‏.‏ والباء هنا للإلصاق، ليست للتوكيد، ولهذا لم يقرأ القراء هنا وأيديكم، كما قرأوا هناك وأرجلكم؛ لأنه لو قال‏:‏ فامسحوا وجوهكم وأيديكم، أو امسحوا بها، لكان يكتفي بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس، وهو خلاف الإجماع، فلما كانت الباء للالصاق دل على أنه لابد من إلصاق الممسوح به، فدل ذلك على استعمال الطهور، ولهذا كانت هذه الباء لا تدل على التبعيض عند أحد من السلف، وأئمة العربية‏.‏
ولا قال الشافعي‏:‏ إن التبعيض يستفاد من الباء،بل أنكر إمام الحرمين وغيره من أصحابه ذلك، وحكوا كلام أئمة العربية في إنكار ذلك، ولكن من قال بذلك استند إلى دلالة أخرى‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ دلت هذه الآية على أن التراب طهور كما صرحت بذلك السنة الصحيحة في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏)‏ وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير‏)‏‏.‏ رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي والترمذي وهذا لفظه‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى، إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فعليه استعماله‏.‏
وكذلك تيمم الجنب‏:‏ ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف إلى أنه يتيمم إذا عدم الماء في السفر، إلى أن يجد الماء، فإذا وجده كان عليه استعماله، وقد روي عن عمر وابن مسعود إنكار تيمم الجنب، وروي عنهما الرجوع عن ذلك، وهو قول أكثر الصحابة‏:‏ كعلى، وعمار، وابن عباس، وأبي ذر، وغيرهم‏.‏ وقد دل عليه آيات من كتاب الله وخمسة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
منها‏:‏ حديث عمار بن ياسر، وعمران بن حصين، كلاهما في الصحيحين، ومنها‏:‏ حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي، ومنها‏:‏ حديث عمرو بن العاص، وحديث الذي شج فأفتوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال‏)‏ ففي الصحيح عن عمر أنه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال‏:‏ ‏(‏ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ أصابتني جنابة ولا ماء، قال‏:‏ ‏(‏عليك بالصعيد، فإنه يكفيك‏)‏‏.‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏
وفي الصحيحين عن عمار بن ياسر قال‏:‏ بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد، كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا‏)‏، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة،ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه‏.‏ وهذا لفظ مسلم‏.‏
فَصْـــل
وقد تنازع العلماء في التيمم‏:‏ هل يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، أم الحدث قائم ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع‏؟‏ وهذه مسألة نظرية‏.‏
وتنازعوا هل يقوم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء‏؟‏ على قولين مشهورين وهو نزاع عملي‏.‏
فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت، ويبقي بعد الوقت، ويصلي به ما شاء كالماء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم‏.‏ وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أنه لا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعد خروجه‏.‏ ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ يتيمم لوقت كل صلاة، ومنهم من يقول‏:‏ يتيمم لفعل كل فريضة، ولا يجمع به فرضين‏.‏ وغلا بعضهم فقال‏:‏ ويتيمم لكل نافلة، وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه طهارة ضرورية، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، فإذا تيمم في وقت يستغني عن التيمم فيه لم يصح تيممه، كما لو تيمم مع وجود الماء‏.‏
قالوا‏:‏ ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم، وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم لكن لما ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد‏.‏ رواه مسلم في صحيحه، دلت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه، وبقي التيمم على ظاهر الخطاب، وعلل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة، وذلك يبطل تيممه‏.‏
وورد عن علي، وعمرو بن العاص، وابن عمر، مثل قولهم‏.‏ ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة‏:‏ أن التراب طهور، كما أن الماء طهور‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير‏)‏ فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا‏.‏ فدل على أنه مطهر للمتيمم‏.‏ وإذا كان قد جعل المتيمم مطهرًا كما أن المتوضئ مطهر، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل أن خروج الوقت يبطل، كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول‏.‏
فإن التيمم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام الشهرين، فإنه بدل عن الاعتاق وصيام الثلاث والسبع فإنه بدل عن الهدي في التمتع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين فإنه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المبدل، وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته، فيوجب المسح على المرفقين، وإن كانت آية التيمم مطلقة، كما قاس عمار لما تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة، فمسح جميع بدنه كما يغسل جميع بدنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فساد هذا القياس، وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء، وهو مسح الوجه واليدين؛ لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل، بل حكمه حكمه، فإن التيمم مسح عضوين، وهما العضوان المغسولان في الوضوء، وسقط العضوان الممسوحان، والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين بخلاف الغسل‏.‏
والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، بخلاف الوضوء، والتيمم لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث، بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه، ولكن حكمه حكم الوضوء؛ لأنه بدل منه، فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال، فهذا مقتضي النص والقياس‏.‏
فإن قيل‏:‏ الوضوء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه‏.‏
قيل‏:‏ عن هذا جوابان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه؛ فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏قول القائل‏:‏ يرفع الحدث أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي، وإنما هو نزاع اعتباري لفظي، وذلك أن الذين قالوا‏:‏ لا يرفع الحدث، قالوا‏:‏ لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء‏.‏
والذين قالوا‏:‏ يرفع الحدث، إنما قالوا برفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي، ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأن المناسبة هل تنخرم بالمعارضة، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته ‏؟‏
وكشف الغطاء عن هيئة النزاع، أن لفظ العلة يراد به العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم، بحيث إذا وجد وجد الحكم، ولا يتخلف عنه، فيدخل في لفظ العلة على هذا الاصطلاح جبر العلة وشروطها، وعدم المانع؛ إما لكون عدم المانع يستلزم وصفًا ثبوتيا على رأي، وإما لكون العدم قد يكون جبرًا من المقتضي على رأي، وهذه العلة متي تخصصت وانتقضت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها، كما لو علل معلل قصر الصلاة بمطلق العذر‏.‏ قيل له‏:‏ هذا باطل، فإن المريض ونحوه من أهل الأعذار لا يقصرون، وإنما يقصر المسافر خاصة، فالقصر دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، ودوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا دليل على المدار عليه للدائر، وكما لو علل وجوب الزكاة بمجرد ملك النصاب، قيل له‏:‏ هذا ينتقض بالملك قبل الحول‏.‏
وقد يراد بلفظ العلة ما يقتضي الحكم، وإن توقف على ثبوت شروط وانتفاء موانع‏.‏
وقد يعبر عن ذلك بلفظ السبب، فيقال‏:‏ الأسباب المثبتة للإرث ثلاثة‏:‏ رحم، ونكاح، وولاء‏.‏ وعند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين يثبت بعقد الموالاة وغيرها، فالعلة هنا قد يتخلف عنها الحكم المانع‏:‏ كالرق، والقتل، واختلاف الدين‏.‏
فإذا أريد بالعلة هذا المعنى جاز تخصيصها لفوات شرط ووجود مانع‏.‏ فأما إن لم يبين المعلل بين صورة النقض وبين غيرها فرقًا مؤثرًا بطل تعلىله، فإن الحكم اقترن بالوصف تارة كما في الأصل، وتخلف عنه تارة كما في الأصل، ويختلف عنه تارة كما في صورة النقض‏.‏
والمستدل إن لم ييبن أن الفرع مثل الأصل دون صورة النقض، فلم يكن إلحاقه بالأصل في ثبوت الحكم أولى من إلحاقه بصورة النقض في انتفائه؛ لأن الوصف موجود في الصور الثلاث، وقد اقترن به الحكم في الواحدة دون الأخرى، وشككنا في الصورة الثالثة‏.‏
وهذا كما لو اشترك ثلاثة في القتل‏:‏ فقتل الأولىاء واحدًا، ولم يقتلوا آخر إما لبذل الدية، وإما لإحسان كان له عندهم، والثالث لم يعرف أهو كالمقتول أو كالمعفو عنه، فإنا لا نلحقه بأحدهما إلا بدليل يبين مساواته له دون مساواته للآخر‏.‏
إذا عرف هذا فالأصوليون والفقهاء متنازعون في استحلال الميتة عند الضرورة، فمنهم من يقول‏:‏ قد استحل المحظور مع قيام السبب الحاظر، وهو ما فيها من حيث التغذية‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ الضرورة ما أزالت حكم السبب وهو التحريم إزالة اقتضاء للحظر، فلم يبق في هذه الحال حاظر؛ إذ يمتنع زوال الحظر مع وجود مقتضيه التام‏.‏
وفصل النزاع‏:‏ أنه إن أريد بالسبب الحاظر السبب التام، وهو ما يستلزم الحظر، فهذا يرتفع عند المخمصة، فإن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والحل ثابت في هذه الحال، فيمتنع وجود السبب المستلزم له‏.‏ وإن أريد بالسبب المقتضي للحظر لولا المعارض الراجح، فلا ريب أن هذا موجود حال الحظر، لكن المعارض الراجح أزال اقتضاءه للحظر، فلم يبق في هذه الحال مقتضيا، فإذا قدر زوال المخمصة عمل السبب عمله لزوال المعارض له‏.‏
وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإنه فرع على قول من يقول‏:‏ إنه يرفع الحدث، فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود هذا المعنى ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، والماء يكون طهورًا إذا أزال الحدث،وإلا مع وجود الجنابة يمتنع حصول الطهارة، فصاحب هذا القول إنما قال‏:‏ إنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، وهذا ممكن ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، وإنما يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورًا‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه ليس برافع ولكنه مبيح، والحدث هو المانع للصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تام، كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التام مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع‏.‏ وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال، فهذا صحيح‏.‏
وكذلك من قال‏:‏ هو رافع للحدث‏.‏إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع‏:‏ أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية، بخلاف الماء‏.‏
وإن قال‏:‏ أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء، فقد أصاب، وليس بين القولين نزاع شرعي عملي‏.‏
وعلى هذا فيقال‏:‏ على كل من القولين لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل، إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة، وليس بين هذا فرق مؤثرًا إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل‏.‏
وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك رخصة عامة لأمته، ولم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل، أو تلك الصلاة أو غيرها كما لو يفصل في ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر‏.‏
وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به؛ ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ومذهب أبي يوسف، وغيره‏.‏ لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك؛ لنقص حال المتيمم‏.‏
وأيضًا، كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سببا حادثا لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة؛ إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء‏.‏ والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة، وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين، وطهارة المستحاضة، وذوي الأحداث الدائمة‏.‏
قيل‏:‏ أما طهارة المسح على الخفين فليست واجبة، بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل؛ ولهذا وقتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة، ولا خروجها، ولكن لما كانت رخصة ليست بعزيمة حد لها وقتًا محدودًا في الزمن، ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى، ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمة لم تتوقت بل يمسح عليها، إلى أن يحلها، ويمسح في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما يتيمم عن الحدثين الأصغر والأكبر، فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين‏.‏
وأما ذوو الأحداث الدائمة‏:‏ كالمستحاضة، فأولئك وجد في حقهم السبب الموجب للحدث، وهو خروج الخارج النجس من السبيلين، ولكن لأجل الضرورة رخص لهم الشارع في الصلاة معه، فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة؛ ولهذا لو تطهرت المستحاضة ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت، وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت، ثم لا تصلي لوجود الناقض للطهارة بخلاف المتيمم، فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته‏.‏
والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا مايبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناء على قولنا، وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإن هذا مذهب الثلاثة‏:‏ أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏
وأما من لم ينقض الطهارة بهذا، أو لم يوقت هذا كمالك، فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا؛ فإنه لا يتوقت عنده لا هذا ولا هذا، فالتيمم أولى أن لا يتوقت‏.‏
وقول القائل‏:‏ إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين‏.‏
قيل‏:‏ نعم، يجب عليه، لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد أحسن،وأتي بالواجب قبل هذا، كما لو توضأ قبل هذا، فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقي محدثًا، وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير طهارة، وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة، حتى ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه السلام، وقال‏:‏ ‏(‏كرهت أن أذكر الله إلا على طهر‏)‏‏.‏
وإذا كان تطهر قبل الوقت كان قد أحسن، وأتي بأفضل مما وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدي أكثر من الواجب في الزكاة، وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كله حسن، إذا لم يكن محظورًا، كزيادة ركعة خامسة في الصلاة‏.‏ والتيمم مع عدم الماء حسن ليس بمحرم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة، ولمس المصحف، وقراءة القرآن، وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف، وبعضه معارض بقول غيره، ولا إجماع في المسألة‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏
فَصْـــل
وأما الصعيد‏:‏ ففيه أقوال، فقيل‏:‏ يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، وإن لم يعلق بيده؛ كالزَّرْنيخ، الزرنيخ‏:‏ حجر منه أبيض وأحمر وأصفر‏.‏ والنَّوْرة، النورة‏:‏ الزهر الأبيض، والجَصّ، الجَصّ‏:‏ هو ما يطلي به، وهو معرب، وكالصخرة الملساء، فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به‏.‏ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ ومحمد يوافقه، لكن بشرط أن يكون مغبرًا لقوله‏:‏ ‏{منه}‏‏.‏
وقيل‏:‏ يجوز بالأرض، وبما اتصل بها حتى بالشجر، كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر، والمدر، وهو قول مالك، وله في الثلج روايتان‏:‏
إحداهما‏:‏ يجوز التيمم به، وهو قول الأوزاعي والثوري‏.‏ وقيل يجوز بالتراب والرمل، وهو أحد قولي أبي يوسف، وأحمد في إحدى الروايتين، وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب‏.‏
وقيل‏:‏ لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد، وهو قول أبي يوسف، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏
واحتج هؤلاء بقوله‏:‏ ‏{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وهذا لا يكون إلا فيما يعلق بالوجه وإلىد، والصخر لا يعلق لا بالوجه ولا باليد واحتجوا بأن ابن عباس قال‏:‏ الصعيد الطيب تراب الحرث، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وجعلت تربتها طهورًا‏)‏ قالوا‏:‏ فعم الأرض بحكم المسجد، وخص تربتها ـ وهو ترابها ـ بحكم الطهارة‏.‏
قالوا‏:‏ ولأن الطهارة بالماء اختصت من بين سائر المائعات بما هو ماء في الأصل، فكذلك طهارة التراب تختص بما هو تراب في الأصل، وهما الأصلان اللذان خلق منهما آدم‏:‏ الماء، والتراب‏.‏ وهما العنصران البسيطان، بخلاف بقية المائعات والجامدات، فإنها مركبة‏.‏
واحتج الأولون بقوله تعالى‏:‏ ‏{صَعِيدًا}‏ قالوا‏:‏ والصعيد هو الصاعد على وجه الأرض، وهذا يعم كل صاعد، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}‏ ‏[‏الكهف‏:‏8‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 40‏]‏‏.‏ واحتج من لم يخص الحكم بالتراب بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏فعنده مسجده وطهوره‏)‏، فهذا يبين أن المسلم في أي موضع كان عنده مسجده وطهوره‏.‏
ومعلوم أن كثيرًا من الأرض ليس فيها تراب حرث، فإن لم يجز التيمم بالرمل كان مخالفًا لهذا الحديث، وهذه حجة من جوز التيمم بالرمل دون غيره، أو قرن بذلك السبخة؛ فإن من الأرض ما يكون سبخة‏.‏ واختلاف التراب بذلك كاختلافه بالألوان، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوره على قدر تلك القبضة‏:‏ جاء منهم الأسود، والأبيض وبين ذلك، وجاء منهم السهل والحزن وبين ذلك، ومنهم الخبيث والطيب، وبين ذلك‏)‏‏.‏
وآدم إنما خلق من تراب، والتراب الطيب والخبيث‏:‏ الذي يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، يجوز التيمم به فعلم أن المراد بالطيب الطاهر، وهذا بخلاف الأحجار والأشجار، فإنها ليست من جنس التراب، ولا تعلق باليد، بخلاف الزرنيخ والنورة فإنها معادن في الأرض، لكنها لا تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس‏.‏
قال الشيخ الإمام العالم مفتي الأنام، المجتهد الفقيه الإمام‏:‏ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ـ رحمه الله ورضي عنه‏:‏
قول الله عز وجل‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏
هذا الخطاب يقتضي‏:‏ أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل‏.‏ والمسح‏.‏ وهو الوضوء‏.‏
وذهبت طائفة‏:‏ إلى أن هذا عام مخصوص‏.‏
وذهبت طائفة‏:‏ إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضئًا وكلا القولين ضعيف‏.‏
فأما الأولون‏:‏ فإن منهم من قال‏:‏ المراد بهذا‏:‏ القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم، ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم‏.‏
قالوا‏:‏ الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا، وعلى المتغوط بقوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}‏ وعلى لامس النساء بقوله‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ وهذا هو الحدث المعتاد‏.‏ وهو الموجب للوضوء عندهم‏.‏
ومن هؤلاء من قال‏:‏ فيها تقديم وتأخير‏.‏ تقديره‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
فيقال‏:‏ أما تناولها للقائم من النوم المعتاد، فظاهر لفظها يتناوله‏.‏ وأما كونها مختصة به، بحيث لا تتناول من كان مستيقظًا وقام إلى الصلاة، فهذا ضعيف‏.‏ بل هي متناولة لهذا لفظًا ومعنى‏.‏
وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة، لا من نوم‏:‏ كالعصر والمغرب والعشاء‏.‏ وكذلك الظهر في الشتاء، لكن الفجر يقومون إلىها من نوم‏.‏ وكذلك الظهرفي القائلة‏.‏ والآية تعم هذا كله‏.‏
لكن قد يقال‏:‏ إذا أمرت الآية القائم من النوم؛ لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره، فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى، فتكون ـ على هذا ـ دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه‏.‏ وإن قيل‏:‏ إن اللفظ عام، يتناول هذا بطريق العموم اللفظي‏.‏
فهذان قولان متوجهان‏.‏ والآية على القولين عامة‏.‏ وتعم ـ أيضًا ـ القيام إلى النافلة بالليل والنهار، والقيام إلى صلاة الجنازة، كما سنبينه ـ إن شاء الله‏.‏
فمتي كانت عامة لهذا كله‏:‏ فلا وجه لتخصيصها‏.‏
وقالت طائفة‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم‏.‏ فإن المتوضئ ليس عليه وضوء‏.‏ وكل هذا عن الشافعي ـ رحمه الله ـ ويوجبه الشافعي في التيمم‏.‏ فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا‏.‏
فإن كان قد قال هذا‏:‏ كان له قولان‏.‏
ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف؛ لاتفاقهم على الحكم‏.‏ فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقًا على الإضمار، كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي‏.‏ قال‏:‏ وللعلماء في المراد بالآية قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فصار الحدث مضمرًا في وجوب الوضوء‏.‏ وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى، وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ والفقهاء‏.‏
قال‏:‏ والثاني، أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثًا كان أو غير محدث‏.‏
وهذا مروي عن عكرمة وابن سيرين‏.‏
ونقل عنهم‏:‏ أن هذا الحكم غير منسوخ‏.‏ ونقل عن جماعة من العلماء‏:‏ أن ذلك كان واجبًا بالسنة‏.‏ وهو ما روي بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏عمدًا فعلته يا عمر‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ أما الحكم ـ وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى ـ فهذا قول عامة السلف والخلف‏:‏ والخلاف في ذلك شاذ‏.‏ وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى، فإنه قد ثبت بالتواتر أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعًا، جمع بهم بين الصلاتين وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله‏.‏ ولما سلم من الظهر، صلى بهم العصر، ولم يحدث وضوءًا لا هو ولا أحد، ولا أمر الناس بإحداث وضوء، ولا نقل ذلك أحد، وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقًا‏.‏
وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وفيه عن أحمد ـ رحمه الله ـ روايتان‏.‏
وكذلك ـ أيضًا ـ لما قدم مزدلفة‏:‏ صلى بهم المغرب والعشاء جمعًا من غير تجديد وضوء العشاء‏.‏ وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة‏.‏ وأقام لكل صلاة إقامة‏.‏ وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأنس ـ رضي الله عنهم‏.‏ كلها تقتضي‏:‏ أنه هو صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمون خلفه ـ صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى، لم يحدثوا لها وضوءًا‏.‏
وكذلك هو صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم أنه كان يتوضأ لصلاة الليل‏.‏ فيصلي به الفجر مع أنه كان ينام حتى يغط‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏)‏، فهذا أمر من أصح ما يكون أنه‏:‏ كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأه للنافلة، يصلي به الفريضة‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إنه كان يتوضأ لكل صلاة‏؟‏
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، ثم قدم عليه وفد عبد القيس‏.‏ فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر، ولم يحدث وضوءًا‏.‏
وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة‏.‏ وتارة النافلة ثم الفريضة‏.‏ وتارة فريضة ثم فريضة‏.‏ كل ذلك بوضوء واحد‏.‏
وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة‏.‏
وكان المسلمون على عهده يتوضؤون ثم يصلون ما لم يحدثوا، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏ ولم ينقل عنه ـ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ـ‏:‏ أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة‏.‏
فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل‏.‏
وأما القول بوجوبه‏:‏ فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الصحابة‏.‏ والنقل عن على ـ رضي الله عنه ـ بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه‏.‏ وعلى ـ رضي الله عنه ـ أجل من أن يخفى عليه مثل هذا، والكذب على علي كثير مشهور، أكثر منه على غيره‏.‏
وأحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين ـ أنكر أن يكون في هذا نزاع‏.‏ وقال أحمد بن القاسم‏:‏ سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد، فقال‏:‏ لا بأس بذلك، إذا لم ينتقض وضوؤه‏.‏ ما ظننت أن أحدًا أنكر هذا‏.‏
وروى البخاري في صحيحه عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة‏.‏ قالت‏:‏ وكيف كنتم تصنعون‏؟‏ قال‏:‏ يجزئ أحدنا الوضوء، ما لم يحدث‏.‏ وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة‏.‏ ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين، مع أنه كان أحيانًا يصلى صلوات بوضوء واحد‏.‏ كما في صحيح مسلم عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، ومسح علي خفيه‏.‏ فقال له عمر‏:‏ إني رأيتك صنعت شيئًا لم تكن صنعته‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عمدًا صنعته يا عمر‏)‏‏.‏
والقرآن ـ أيضًا ـ يدل علي أنه لا يجب علي المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه‏:‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 30 يونيو - 11:42


أحدها‏:‏ أنه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فقد أمر من جاء من الغائط، ولم يجد الماء، أن يتيمم الصعيد الطيب، فدل علي أن المجيء من الغائط يوجب التيمم‏.‏ فلو كان الوضوء واجبًا علي من جاء من الغائط ومن لم يجئ، فإن التيمم أولي بالوجوب‏.‏ فإن كثيرًا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة‏.‏ وعلي هذا، فلا تأثير للمجيء من الغائط‏.‏ فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم، وإن لم يجئ من الغائط‏.‏ ولو جاء من الغائط، ولم يقم إلى الصلاة، لا يجب عليه وضوء ولا تيمم، فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثًا علي قول هؤلاء‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه ـ سبحانه ـ خاطب المؤمنين‏.‏ لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم، وكل بني آدم محدث‏.‏ والأصل فيهم‏:‏ الحدث الأصغر‏.‏ فإن أحدهم من حين كان طفلاً قد اعتاد ذلك، فلايزال محدثًا، بخلاف الجنابة‏.‏ فإنها إنما تعرض لهم عند البلوغ‏.‏ والأصل فيهم‏:‏ عدم الجنابة‏.‏ كما أن الأصل فيهم‏:‏ عدم الطهارة الصغري؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}‏ثم قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏ فأمرهم بالطهارة الصغري مطلقًا؛ لأن الأصل‏:‏ أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضؤوا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وليس منهم جنب إلا من أجنب؛ فلهذا فرق ـ سبحانه ـ بين هذا وهذا‏.‏
الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة، فدل علي أن القيام هو السبب الموجب للوضوء‏.‏ وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبًا حينئذ وجوبًا مضيقًا‏.‏ فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك، فقد أدي هذا الواجب قبل تضيقه‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة، وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره‏.‏ فإذا سعى إليها قبل النداء، فقد سابق إلى الخيرات، وسعى قبل تضيق الوقت‏.‏ فهل يقول عاقل‏:‏ إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء‏؟‏
وكذلك الوضوء‏:‏ إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال، أو للمغرب قبل غروب الشمس، أو للفجر قبل طلوعه، وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت، فمن قال‏:‏ إن عليه أن يعيد الوضوء، فهو بمنزلة من يقول‏:‏ إن عليه أن يعيد السعي إذا أتي الجمعة قبل النداء‏.‏
والمسلمون علي عهد نبيهم كانوا يتوضؤون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها، ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب‏.‏ وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد‏.‏ فهؤلاء لو لم يتوضؤوا قبل المغرب‏:‏ لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعًا لبعد المواضع‏.‏ وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوضأ بعد الغروب، ولا من حضر عنده في المسجد، ولا كان يأمر أحدًا بتجديد الوضوء بعد المغرب‏.‏ وهذا كله معلوم مقطوع به‏.‏ وما أعرف في هذا خلافًا ثابتـًا عن الصحابة‏:‏ أن من توضأ قبل الوقت، عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت‏.‏ ولا يستحب ـ أيضًا ـ لمثل هذا تجديد وضوء‏.‏
وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول‏:‏ هل يستحب له التجديد‏؟‏ وأما من لم يصل به، فلا يستحب له إعادة الوضوء، بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت‏.‏
فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه، كالساعي إلى الجمعة قبل النداء، وكمن قضى الدين قبل حلوله؛ ولهذا قال الشافعي وغيره‏:‏ إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة؛ لأنها تلك الصلاة بعينها، سابق إليها قبل وقتها‏.‏ وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة‏.‏ ومن أوجبها قاسه على الحج، وبينهما فرق‏.‏ كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
وهذا الذي ذكرناه في الوضوء هو بعينه في التيمم؛ ولهذا كان قول العلماء‏:‏ إن التيمم كالوضوء،فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء‏.‏ وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة، فيصلى به الفريضة وغيرها، كما هو قول ابن عباس‏.‏ وهو مذهب كثير من العلماء ـ أبي حنيفة وغيره ـ وهو أحد القولين عن أحمد‏.‏
والقول الآخر ـ وهو التيمم لكل صلاة ـ هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد، وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه‏.‏
فالآية محكمة ولله الحمد‏.‏ وهي على ما دلت عليه، من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء‏.‏ فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه، وسارع إلى الخيرات، كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء‏.‏
فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص، ولا تدل على وجوب الوضوء مرتين‏.‏ بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة، وهو الذي عليه جماعة المسلمين، وهو وجوب الوضوء على المصلى، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏)‏ فقال رجل من حضرموت‏:‏ ما الحدث يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ فساء أو ضراط‏.‏ وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول‏)‏‏.‏
وهذا يوافق الآية الكريمة‏.‏ فإنه يدل على أنه لابد من الطهور، ومن كان علي وضوء فهو علي طهور، وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثًا، كما قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتي يتوضأ‏)‏، وهو إذا توضأ ثم أحدث، فقد دلت الآية علي أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة، وإذا كان قد توضأ، فقد فعل ما أمر به‏.‏ كقوله‏:‏ لا تصلى إلا بوضوء‏.‏ أو لا تصلى حتى تتوضأ ونحو ذلك‏.‏ مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة، الشامل لأنواعها وأعيانها‏.‏ ليس مأمورًا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر‏.‏ ولا في اللفظ ما يدل على ذلك‏.‏
لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس، كمن أسلم فتوضأ قبل الزوال أو الغروب، أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت، بخلاف الوجه الذي قبله، فإنه يتناول هذا كله‏.
فَصْــل
وقوله تعالى‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، يقتضي وجوب الوضوء علي كل مصل مرة بعد مرة، فهو يقتضي التكرار، وهذا متفق عليه بين المسلمين في الطهارة‏.‏ وقد دلت عليه السنة المتواترة، بل هو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لم يأمرنا بالوضوء لصلاة واحدة، بل أمر بأن يتوضأ كلما صلى‏.‏ ولو صلى صلاة بوضوء، وأراد أن يصلي سائر الصلوات بغير وضوء‏:‏ استتيب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏
لكن المقصود هنا‏:‏ دلالة الآية عليه، وذلك من لفظ ‏[‏الصلاة‏]‏ فإن ‏[‏الصلاة‏]‏ هنا اسم جنس‏.‏ ليس المراد صلاة واحدة‏.‏ فقد أمر إذا قام إلى جنس الصلاة أن يتوضأ‏.‏ والجنس يتناول جميع ما يصليه من الصلوات في جميع عمره‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا يقتضي عموم الجنس، فمن أين التكرار‏؟‏ فإذا قام إلى أي صلاة توضأ، لكن من أين أنه إذا قام إليها يومًا آخر يتوضأ‏؟‏
قيل‏:‏ لأنه في هذا اليوم الثاني قائم إلى الصلاة، فهو مأمور بالوضوء إذا قام إلى مسمي الصلاة، فحيث وجد قيام إلى مسمي الصلاة فهو مأمور بالوضوء متي وجد ذلك‏.‏ فعليه الوضوء‏.‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، فالمراد‏:‏ جنس الدلوك، فهو مأمور بإقامة الصلاة له‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}‏ ‏[‏طه‏:‏ 130‏]‏، فهو متناول لكل طلوع وغروب، وليس المراد طلوعًا واحدًا، فكأنه قال‏:‏ قبل كل طلوع لها، وقبل كل غروب‏.‏ وأقم الصلاة عند كل دلوك، وكل صلاة يقوم إليها متوضئًا لها‏.‏
وقد تنازع الناس في الأمر المطلق‏:‏ هل يقتضي التكرار‏؟‏ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏
قيل‏:‏ يقتضيه، كقول طائفة ـ منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل‏.‏
وقيل‏:‏ لا يقتضيه، كقول كثير ـ منهم أبو الخطاب‏.‏
وقيل‏:‏ إن كان معلقًا بسبب اقتضي التكرار، وهذا هو المنصوص عن أحمد كآية الطهارة والصلاة‏.‏
فإن قيل‏:‏ فهذا لا يتكرر في الطلاق والعتق المعلق‏.‏
قيل‏:‏ لأن عتق الشخص الواحد لا يتكرر‏.‏ وكذلك الطلاق المعلق نفسه لا يتكرر، بل الطلقة الثانية حكمها غير حكم الأولي‏.‏ وهو محدود بثلاث‏.‏ ولكن إذا قال الناذر‏:‏لله علي ـ إن رزقني الله ولدًا ـ أن أعتق عنه‏.‏ وإذا أعطاني مالاً أن أزكيه، أو أتصدق بعشرة‏:‏ تكرر، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
فَصْــل
قوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ هذا مما أشكل على بعض الناس‏.‏
فقال طائفة من الناس‏:‏ ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو، وجعلوا التقدير‏:‏ وجاء أحد منكم من الغائط، ولامستم النساء‏.‏
قالوا‏:‏ لأن من مقتضي ‏[‏أو‏]‏ أن يكون كل من المرض والسفر موجبًا للتيمم؛ كالغائط والملامسة‏.‏ وهذا مخالف لمعني الآية، فإن ‏[‏أو‏]‏ ضد الواو، والواو‏:‏ للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏
وأما معني‏:‏ ‏[‏أو‏]‏ فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، بل يقتضي إثبات أحدهما‏.‏ لكن قد يكون ذلك مع إباحة الآخر كقوله‏:‏ جالس الحسن أو ابن سيرين؛ وتعلم الفقه أو النحو، ومنه خصال الكفارة يخير بينها، ولو فعل الجميع جاز‏.‏ وقد يكون مع الحصر، يقال للمريض‏:‏ كلُ ْهذا، أو هذا‏.‏ وكذلك في الخبر‏:‏ هي لإثبات أحدهما، إما مع عدم علم المخاطب ـ وهو الشك ـ أو مع علمه وهو الإيهام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏، لكن المعني الذي أراده‏:‏ هو الأصح، وهو أن خطابه بالتيمم للمريض والمسافر، وإن كان قد جاء من الغائط، أو جامع‏.‏
ولا ينبغي ـ علي قولهم ـ أن يكون المراد‏:‏ ألا يباح التيمم إلا مع هذين، بل التقدير‏:‏ بالاحتلام، أو حدث بلا غائط، فالتيمم هنا أولي، وهو ـ سبحانه ـ لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، أمرهم إذا كانوا جنبًا‏:‏ أن يطهروا، وفيهم المحدث بغير الغائط، كالقائم من النوم، والذي خرجت منه الريح‏.‏ ومنهم الجنب بغير جماع، بل باحتلام، فالآية عمت كل محدث وكل جنب‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فأباح التيمم للمحدث والجنب إذا كان مريضًا أو علي سفر، ولم يجد ماء‏.‏ والتيمم رخصة‏.‏
فقد يظن الظان‏:‏ أنها لا تباح إلا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع، فإن التيمم مع ذلك، والصلاة معه، مما تستعظمه النفوس وتهابه‏.‏ فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقًا‏.‏ وكثيرًا من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم، إذا كان جعل التراب طهورًا كالماء، هو مما فضل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ ومن لم يستحكم إيمانه، لا يستجيز ذلك‏.‏
فبين الله ـ سبحانه ـ أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط، وتغليظ الجنابة بالجماع‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن كنتم مرضي أو مسافرين، أو كان مع ذلك ـ جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
ليس المقصود‏:‏ أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر، فإنه إذا جاء أحد منكم من الغائط، أو لامس النساء، وليسوا مرضي ولا مسافرين‏.‏ فقد بين ذلك بقوله ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}‏ وبقوله‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏، فدلت الآية على وجوب الوضوء والغسل على الصحيح والمقيم‏.‏
وأيضًا، فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع، يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة، دون ما هو أخف من ذلك، من خروج الريح ومن الاحتلام‏.‏ فإن الريح كالنوم، والاحتلام يكون في المنام‏.‏ فهناك يحصل الحدث والجنابة والإنسان نائم‏.‏ فإذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل، فإذا حصل ذلك وهو يقظان، فهو أولى بالوجوب؛ لأن النائم رفع عنه القلم، بخلاف اليقظان‏.‏
ولكن دلت الآية علي أن الطهارة تجب، وإن حصل الحدث والجنابة بغير اختياره، كحدث النائم واحتلامه‏.‏ وإذا دلت علي وجوب طهارة الماء في الحال، فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته أولى، وهذا بخلاف التيمم؛ فإنه لا يلزم إذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح أن يبيحه لمن أحدث باختياره‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ليبين جواز التيمم لهذين‏.‏ وإن حصل حدثهما في اليقظة، وبفعلهما وإن كان غليظًا‏.‏
ولو كانت ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو، كان تقدير الكلام‏:‏ أن التيمم لا يباح إلا بوجود الشرطين‏:‏ المرض، والسفر، مع المجيء من الغائط والاحتلام‏.‏ فيلزم من هذا ألا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط، كحدث النائم، ومن خرجت منه الريح‏.‏ فإن الحكم إذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما، وهذا ليس مرادًا قطعًا، بل هو ضد الحق؛ لأنه إذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار، فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى‏.‏
فتبين أن معنى الآية‏:‏ وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا‏.‏ وإن كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏.‏ كما يقال‏:‏ وإن كنت مريضًا أو مسافرًا‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن كنتم أيها القائمون إلى الصلاة ـ وأنتم مرضي أو مسافرون ـ قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء؛ ولهذا قال من قال‏:‏ إنها خطاب للقائمين من النوم‏:‏ إن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
فإنه ـ سبحانه ـ ذكر أولاً فعلهم بقوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الثلاثة أفعال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، حال لهم‏.‏ أي كنتم على هذه الحال، كقوله‏:‏ وإن كنتم على حال العجز عن استعمال الماء ـ إما لعدمه، أو لخوف الضرر باستعماله ـ فتيمموا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم‏.‏ أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
ولكن الذي رجحناه‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏ عام‏:‏ إما لفظًا ومعنى، وإما معنى‏.‏
وعلى هذا، فالمعنى‏:‏ إذا قمتم إلى الصلاة فتوضؤوا، أو اغتسلوا إن كنتم جنبًا‏.‏ وإن كنتم مرضى أو مسافرين، أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث ـ جئتم من الغائط أو لامستم النساء ـ إذ التقدير‏:‏ وإن كنتم مرضى أو مسافرين، وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم ـ مع القيام إلى الصلاة، والمرض أو السفر ـ هذين الأمرين‏:‏ المجيء من الغائط، والجماع، فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين، فالقيام موجب للطهارة، والعذر مبيح، وهذا القيام‏.‏ فإذا قمتم وجب التيمم إن كان قيامًا مجردًا، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء‏.‏
ولكن من الناس من يعطف قوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء}‏، ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ}‏على قوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏والتقدير‏:‏ وإذا قمتم أو جاء أو لامستم‏.‏ وهذا مخالف لنظم الآية، فإن نظمها يقتضي أن هذا داخل في جزاء الشرط‏.‏ وقوله ‏:‏‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فإن الذي قاله قريب من جهة المعني‏.‏ ولكن التقدير‏:‏ وإن كنتم إذا قمتم إلى الصلاة مرضي أو علي سفر، أو كان مع ذلك‏:‏ جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فهو تقسيم من مفرد ومركب‏.‏
يقول‏:‏ إن كنتم مرضي أو علي سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام من النوم أو القعود المعتاد، أو كنتم ـ مع هذا ـ قد جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء‏.‏
فقوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}‏خطاب لمن قيل لهم‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ }‏، ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ }‏، فالمعني‏:‏ يأيها القائم إلى الصلاة توضأ‏.‏ وإن كنت جنبًا فاغتسل‏.‏ وإن كنت مريضًا أو مسافرًا تيمم‏.‏ أو كنت مع هذا وهذا، مع قيامك إلى الصلاة وأنت محدث، أو جنب‏.‏ ومع مرضك وسفرك قد جئت من الغائط، أو لامست النساء، فتيمم إن كنت معذورًا‏.‏
وإيضاح هذا‏:‏ أنه من باب عطف الخاص علي العام الذي يخص بالذكر لامتيازه‏.‏ وتخصيصه يقتضي ذلك‏.‏ ومثل هذا يقال‏:‏ إنه داخل في العام، ثم ذكر بخصوصه‏.‏ ويقال‏:‏ بل ذكره خاصًا يمنع دخوله في العام‏.‏ وهذا يجيء في العطف بأو، وأما بالواو‏:‏ فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، ومن هذا قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
وأما في ‏[‏أو‏]‏ ففي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏135‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 112‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏، فإن الجنف هو الميل عن الحق‏.‏ وإن كان عامدًا‏.‏
قال عامة المفسرين‏:‏ ‏[‏الجنف‏]‏‏:‏ الخطأ و ‏[‏الإثم‏]‏‏:‏ العمد‏.‏ قال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ الجنف‏:‏ الخروج عن الحق‏.‏ وقد يسمي المخطئ‏:‏ العامد‏.‏ إلا أن المفسرين علقوا ‏[‏الجنف‏]‏ على المخطئ، و ‏[‏الإثم‏]‏ علي العامد‏.‏ ومثله قولـه‏:‏ ‏{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 42‏]‏، فإن ‏[‏الكفور‏]‏ هو الآثم ـ أيضًا ـ‏.‏ لكنه عطف خاص علي عام‏.‏ وقد قيل‏:‏ هما وصفان لموصوف واحد، وهو أبلغ‏.‏ فإن عطف الصفة علي الصفة والموصوف واحد، كقوله‏:‏ ‏{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1 - 5‏]‏، ونظائر هذا كثيرة‏.‏
قال ابن زيد‏:‏ الآثم‏:‏ المذنب الظالم والكفور، هذا كله واحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي ألا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم، وهو كفور‏.‏ ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي‏.‏ قال‏:‏ واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة، أو كفور من المشركين‏.‏وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ ليس فيها تخيير ‏[‏أو‏]‏ بمعنى الواو‏.‏ وكذلك قال طائفة‏:‏ منهم البغوي، وابن الجوزي‏.‏
وقال المهدي‏:‏ أي لا تطع من أثم أو كفر‏.‏ ودخول ‏[‏أو‏]‏ يوجب ألا تطيع كل واحد منهما على انفراده‏.‏ ولو قال‏:‏ ولا تطع منهما آثمًا أو كفورًا، لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين‏.‏
وقد يقال‏:‏ إن ‏[‏الكفور‏]‏ هو الجاحد للحق، وإن كان مجتهدًا مخطئًا‏.‏ فيكون هذا أعم من وجه، وهذا أعم من وجه التمسك‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ من هذا الباب‏.‏ فإنه خاطب المؤمنين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏ وهذا يتناول المحدثين كما تقدم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏، ثم قال‏:‏ وإن كنتم ـ مع الحدث والجنابة ـ مرضى أو على سفر، ولم تجدوا ماء فتيمموا‏.‏ وهذا يتناول كل محدث، سواء كان قد جاء من الغائط أو لم يجئ، كالمستيقظ من نومه، والمستيقظ إذا خرجت منه الريح‏.‏ ويتناول كل جنب، سواء كانت جنابته باحتلام أو جماع‏.‏ فقال‏:‏ وإن كنتم محدثون ـ جنب مرضي أو على سفر ـ أو جاء أحد منكم من الغائط ‏.‏وهذا نوع خاص من الحدث ـ أو لامستم النساء ـ وهذا نوع خاص من الجنابة‏.‏
ثم قد يقال‏:‏ لفظ ‏[‏الجنب‏]‏ يتناول النوعين، وخص المجامع بالذكر، وكذلك ‏[‏القائم إلى الصلاة‏]‏ يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك، لكن خص الجائي بالذكر، كما في قوله‏:‏ ‏{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 182‏]‏، فالآثم هو المتعمد، وتخصيصه بالذكر ـ وإن كان دخل ـ ليبين حكمه بخصوصه، ولئلا يظن خروجه عن اللفظ العام‏.‏ وإن كان لم يدخل فهو نوع آخر‏.‏ والتقدير‏:‏ إن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا‏.‏ وهذا معنى الآية‏.
فصــل
وقوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ذكر الحدث الأصغر‏.‏ فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضى فيه الحاجة ‏.‏ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة، وهي الغائط‏.‏ وهو كقولك‏:‏ جاء من المرحاض‏.‏ وجاء من الكنيف ونحو ذلك‏.‏ هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط‏.‏ والريح يخرج معهما‏.‏
وقد تنازع الفقهاء‏:‏ هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءًا من الغائط‏.‏ فلا يكون على هذا نوعًا آخر‏؟‏ أو هي لا تستصحب جزءًا من الغائط، بل هي نفسها تنقض‏.‏ ونقضها متفق عليه بين المسلمين‏.‏ وقد دل عليه القرآن في قوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ}‏ سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقًا، فإن القيام من النوم مراد على كل تقدير‏.‏ وهو إنما نقض بخروج الريح‏.‏ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف‏:‏ أن النوم نفسه ليس بناقض، ولكنه مظنة خروج الريح‏.‏
وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره‏.‏ وهو قول ضعيف‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط، ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ، ويقول‏:‏ ‏(‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏)‏‏.‏
فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث، ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح، لنقض كسائر النواقض‏.‏
وأيضًا، قد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصـلون ولا يتوضـؤون، وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ‏:‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا‏.‏ ثم رقدنا ثم استيقظنا‏.‏ ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم‏)‏‏.‏
ولمسلم عنه قال‏:‏ مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة‏.‏ فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل ـ أو بعضه ـ ولا ندري أي شيء شغله، من أهله أو غير ذلك ـ فقال حين خرج‏:‏ ‏(‏إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة‏)‏ ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى‏.‏
ولمسلم ـ أيضًا ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال‏:‏ إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي‏)‏‏.‏
ففي هذه الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنهم ناموا، وقال في بعضها‏:‏ إنهم رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا‏.‏ وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة، وقد طال انتظارهم وناموا‏.‏ ولم يستفصل أحدًا، لا سئل ولا سأل الناس‏:‏ هل رأيتم رؤيا‏؟‏ أو هل مكن أحدكم مقعدته‏؟‏ أو هل كان أحدكم مستندًا‏؟‏ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض‏؟‏ فلو كان الحكم يختلف لسألهم‏.‏
وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل ـ مع كثرة الجمع ـ يقع هذا كله‏.‏ وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان‏.‏
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب‏:‏ نام النساء والصبيان‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم‏:‏ ‏(‏ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم‏)‏ وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس‏.‏
وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب ‏(‏خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس‏)‏ وفي باب ‏(‏النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم‏)‏، وخرجه في باب ‏(‏وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة‏)‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم‏)‏‏.‏
وهـذا يبين أن قول عمر‏:‏ نام النساء والصبيان، يعني والناس في المسجـد ينتظرون الصلاة‏.‏
وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة، كالذي ينتظر الجمعة إذا نام ـ أي نوم كان ـ لم ينتقض وضؤوه‏.‏ فإن النوم ليس بناقض‏.‏ وإنما الناقض الحدث، فإذا نام النوم المعتاد، الذي يختاره الناس في العادة ـ كنوم الليل والقائلة ـ فهذا يخرج منه الريح في العادة، وهو لا يدري إذا خرجت، فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها، قام دليلها مقامها‏.‏ وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة‏.‏
وأما النوم الذي يشك فيه‏:‏ هل حصل معه ريح أم لا‏؟‏ فلا ينقض الوضوء؛ لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك‏.‏
وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة، ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل‏.‏
وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم‏.‏
فإن قوله‏:‏ ‏(‏العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏، قد روي في السنن من حديث على بن أبي طالب ومعاوية ـ رضي الله عنهما‏.‏ وقد ضعفه غير واحد‏.‏ وبتقدير صحته، فإنما فيه‏:‏ ‏(‏إذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏ وهذا يفهم منه‏:‏ أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء‏.‏ ثم نفس الاستطلاق لا ينقض‏.‏ وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق‏.‏ وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضؤوه‏.‏
وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال‏:‏ أمرنا ألا ننزع خفافنا، إذا كنا سفرًا ـ أو مسافرين ـ ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة‏.‏ لكن من غائط أو بول أو نوم، فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم‏.‏ ولكن فيه‏:‏ أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم، فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور‏.‏ وهو يتناول النوم الذي ينقض، ليس فيه‏:‏ أن كل نوم ينقض الوضوء‏.‏
هذا إذا كان لفظ ‏[‏النوم‏]‏ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فكيف إذا كان من كلام الراوي‏؟‏ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودًا أو قيامًا في الصلاة أو غيرها، فينعس أحدهم وينام، ولم يأمر أحدًا بالوضوء في مثل هذا‏.‏
أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس، فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح، وقد لا يخرج‏:‏ فلا ينقض على أصل الجمهور، الذين يقولون‏:‏ إذا شك هل ينقض أو لا ينقض‏؟‏ أنه لا ينقض، بناء على يقين الطهارة‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 30 يونيو - 11:43


فصــل
وهو ـ سبحانه ـ أمرنا بالطهارتين الصغرى والكبرى، وبالتيمم على كل منهما، فقال‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏ فأمر بالوضوء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏، فأمر بالتطهر من الجنابة، كما قال في المحيض‏:‏ ‏{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقال في سورة النساء‏:‏ ‏{وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، وهذا يبين أن التطهر هو الاغتسال‏.‏
والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال، وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة‏.‏ والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر، كما قال جمهور العلماء‏.‏ والمشهور في مذهب أحمد‏:‏ أن عليه نية رفع الحدث الأصغر، وكذلك ليس عليه فعل الوضوء، ولا ترتيب ولا موالاة عند الجمهور‏.‏ وهو ظاهر مذهب أحمد‏.‏
وقيل‏:‏ لا يرتفع الحدث الأصغر إلا بهما‏.‏
وقيل‏:‏ لا يرتفع حتى يتوضأ‏.‏ روي ذلك عن أحمد‏.‏
والقرآن يقتضي أن الاغتسال كاف‏.‏ وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر‏.‏ بل صار الأصغر جزءًا من الأكبر‏.‏ كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة‏.‏
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية واللواتي غَسَّلْن ابنته‏:‏ ‏(‏اغسلنها ثلاثا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك ـ إن رأيتن ذلك ـ بماء وسدر‏.‏ وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها‏)‏‏.‏
فجعل غسل مواضع الوضوء جزءًا من الغسل، لكنه يقدم كما تقدم الميامن‏.‏
وكذلك الذين نقلوا صفة غسله، كعائشة ـ رضي الله عنها ـ ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه‏.‏ ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل‏.‏
فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء، ولا ينويان وضوءًا، بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{فَاطَّهَّرُواْ}‏ أراد به الاغتسال‏.‏ فدل على أن قوله في الحيض‏:‏ ‏{حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}‏ أراد به الاغتسال، كما قاله الجمهور ـ مالك والشافعي وأحمد ـ وأن من قال‏:‏ هو غسل الفرج، كما قاله داود، فهو ضعيف‏.‏
فصـل
قال الله ـ عز وجل ـ‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏
فقوله‏:‏ ‏{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء}‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏{عَلَى سَفَرٍ}‏ لا بالمرض‏.‏ والمريض يتيمم وإن وجد الماء‏.‏ والمسافر إنما يتيمم إذا لم يجد الماء‏.‏ ذكر سبحانه وتعالى النوعين الغالبين‏:‏ الذي يتضرر باستعمال الماء، والذي لا يجده‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{عَلَى سَفَرٍ}‏ يعم السفر الطويل والقصير، كما قاله الجمهور‏.‏
وقوله‏:‏‏{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى}‏ كقوله في آية الخوف‏:‏‏{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، وقوله في الإحرام‏:‏ ‏{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وفي الصيام‏:‏ ‏{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، ولم يوقت الله ـ تعالى ـ وقتًا في المرض‏.‏
والذي عليه الجمهور‏:‏ أنه لا يشترط فيه خوف الهلاك، بل من كان الوضوء يزيد مرضه، أو يؤخر برأه، يتيمم‏.‏ وكذلك في الصيام والإحرام‏.‏ ومن يتضرر بالماء لبرد، فهو كالمريض عند الجمهور‏.‏ لكن الله ذكر الضرر العام‏.‏ وهو المرض‏.‏ بخلاف البرد‏.‏ فإنه إنما يكون في بعض البلاد لبعبض الناس الذين لا يقدرون على الماء الحار‏.‏
وكذلك ذكر المسافر الذي لا يجد الماء، ولم يذكر الحاضر، فإن عدمه في الحضر نادر‏.‏ لكن قد يحبس الرجل وليس عنده إلا ما يكفيه لشربه كما أن المسافر قد لا يكون معه إلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابه، فهذا عند الجمهور عادم للماء فيتيمم‏.‏
فَصــل
وقوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏
ذكر أعظم ما يوجب الوضوء‏.‏ وهو قضاء الحاجة‏.‏ وأغلظ ما يوجب الغسل، وهو ملامسة النساء‏.‏ وأمر كلا منهما، إذا كان مريضًا أو مسافرًا لا يجد الماء، أن يتيمم‏.‏ وهذا هو مذهب جمهور الخلف والسلف‏.‏
وقد ثبت تيمم الجنب في أحاديث صحاح وحِسان، كحديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ وهو في الصحيحين‏.‏ وحديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ وهو في البخاري‏.‏ وحديث أبي ذر، وعمرو بن العاص، وصاحب الشجة ـ رضي الله عنهم ـ وهو في السنن‏.‏
فهاتان آيتان من كتاب الله، وخمسة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد عرفت مناظرة ابن مسعود في ذلك لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما‏.‏
ولهذا نظائر كثيرة عن الصحابة‏.‏ إذا عرفتها تعرف دلالة الكتاب والسنة عن الرجل العظيم القدر‏.‏ تحقيقا لقوله‏:‏ ‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، ولا يرد هذا النزاع إلا إلى الله والرسول المعصوم المبلغ عن الله، الذي لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي‏.‏ الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده‏.‏
فَصــل
ونذكر هذا على قوله‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏
المراد به‏:‏ الجماع‏.‏ كما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره من العرب‏.‏ وهو يروى عن علي ـ رضي الله عنه ـ وغيره‏.‏ وهو الصحيح في معنى الآية‏.‏ وليس في نقض الوضوء من مس النساء، لا كتاب ولا سنة‏.‏ وقد كان المسلمون دائمًا يمسون نساءهم‏.‏ وما نقل مسلم واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أمر أحدًا بالوضوء من مس النساء‏.‏
وقول من قال‏:‏ إنه أراد ما دون الجماع، وإنه ينقض الوضوء، فقد روي عن ابن عمر والحسن ‏[‏باليد‏]‏ وهو قول جماعة من السلف في المس بشهوة، والوضوء منه حسن مستحب لإطفاء الشهوة، كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه‏.‏ وأما وجوبه، فلا‏.‏
وأما المس المجرد عن الشهوة، فما أعلم للنقض به أصلاً عن السلف‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء}‏ ‏[‏المائدة‏]‏‏.‏ لم يذكر في القرآن الوضوء منه، بل إنما ذكر التيمم، بعد أن أمر المحدث القائم للصلاة بالوضوء‏.‏ وأمر الجنب بالاغتسال فذكر الطهارة بالصعيد الطيب، ولابد أن يبين النوعين‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}‏ بيان لتيمم هذا‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ}‏ لم يذكر واحدًا منهما لبيان طهارة الماء‏.‏
إذا كان قد عرف أصل هذا، فقوله‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏ وقوله‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فالآية ليس فيها إلا أن اللامس إذا لم يجد الماء يتيمم، فكيف يكون هذا من الحدث الأصغر‏؟‏ يأمر من مس المرأة أن يتيمم، وهو لم يأمره أن يتوضأ‏.‏ فكيف يأمر بالتيمم من لم يأمره بالوضوء‏؟‏ وهو إنما أمر بالتيمم من أمره بالوضوء والاغتسال‏.‏ ونظير هذا يطول، ومن تدبر الآية قطع بأن هذا هو المراد‏.‏
فَصْــل
ودلت الآية على أن المسافر يجامع أهله، وإن لم يجد الماء، ولا يكره له ذلك كما قاله الله في الآية‏.‏ وكما دلت عليه الأحاديث؛ حديث أبي ذر وغيره‏.‏
فَصْــل
وقوله‏:‏ ‏{فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ دليل على أن التيمم مطهر كالماء سواء‏.‏
وكذلك ثبت في صحيح السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏‏.‏ رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود والنسائي‏.‏
وفي الصحيح عنه‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏)‏‏.‏
وهو صلى الله عليه وسلم جعل التراب طهورًا في طهارة الحدث وطهارة الجنب‏.‏ كما قال في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏إذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما، فإن كان بهما أذي أو خبث فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏)‏، وقال في حديث أم سلمة‏:‏ ‏(‏ذيل المرأة يطهره ما بعده‏)‏‏.‏
فدل على أن التيمم مطهر، يجعل صاحبه طاهرًا، كما يجعل الماء مستعمله في الطهارة طاهرًا، إن لم يكن جنبًا ولا محدثًا‏.‏ فمن قال‏:‏ إن المتيمم جنب أو محدث، فقد خالف الكتاب والسنة‏.‏ بل هو متطهر‏.‏
وقوله في حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏(‏أصليت بأصحابك وأنت جنب‏؟‏‏)‏ استفهام‏.‏ أي هل فعلت ذلك‏؟‏ فأخبره عمرو ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يفعله بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد‏.‏ فسكت صلى الله عليه وسلم عنه، وضحك‏.‏ ولم يقل شيئًا ‏.‏
فإن قيل‏:‏ إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة، فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ما هو منكر، فلما أخبره أنه صلى بالتيمم‏.‏ دل على أنه لم يصل وهو جنب‏.‏
فالحديث حجة على من احتج به، وجعل المتيمم جنبًا،ومحدثا، والله يقول‏:‏ ‏{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ}‏، فلم يجـز الله له الصـلاة حتى يتطهـر‏.‏ والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة‏.‏ فكيف يكون جنبًا غير متطهر‏؟‏ لكنها طهارة بدل‏.‏ فإذا قدر على الماء بطلت هـذه الطهـارة وتطهـر بالماء حينئـذ؛ لأن البـول المتقدم جعله محدثا‏.‏ والصعيد جعله مطهرًا، إلى أن يجد الماء‏.‏ فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم لا أن الحدث كان مستمرًا‏.‏
ثم مـن قـال‏:‏ التيمم مبيـح لا رافـع، فـإن نزاعه لفظي‏.‏ فـإنـه إن قـال‏:‏ إنه يبيح الصـلاة مـع الجنابـة والحـدث، وإنـه ليس بطهـور، فهـو يخالف النصوص‏.‏ والجنابة محرمة للصـلاة‏.‏ فيمتنـع أن يجتمع المبيـح والمحـرم على سـبيل التمــام‏.‏ فـإن ذلك يقتضي اجتماع الضـدين‏.‏ والمتيمم غـير ممنـوع مـن الصـلاة‏.‏ فالمنـع ارتفـع بالاتفاق، وحكـم الجنابـة المنـع‏.‏ فــإذا قيــل بوجــوده، بـدون مقتضاهـا ـ وهو المنع ـ فهذا نزاع لفظي‏.‏
فَصْــل
وفي الآيـة دلالة على أن المتخلي لا يجب عليه غسل فرجه بالماء، إنما يجب الماء في طهارة الحـدث بسبيلـه‏.‏ على أن إزالـة النجـو والخبث لا يتعـين لها المـاء، فـإنـه على ذلك تدل النصوص؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها تارة بالماء، وتارة بغير الماء، كما قد بسط في مواضع‏.‏
إذ المقصود هنا‏:‏ التنبيه على ما دلت عليه الآية‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏{أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}‏ نص في أنه عند عدم الماء يصلي وإن تغوط، بلا غسل‏.‏
وقد ثبت في السنة أنه يكفيه ثلاثة أحجار وأما مع العذر فإنه قال‏:‏ ‏{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}‏، وهذا يتناول كل قائم، وهو يتناول من جاء من الغائط، كما يتناول من خرجت منه الريح، فلو كان غسل الفرجين بالماء واجبًا على القائم إلى الصلاة، لكان واجبًا كوجوب غسل الأعضاء الأربعة‏.‏
والقرآن يدل على أنه لا يجب عليه إلا ما ذكره من الغسل والمسح، وهو يدل على أن المتوضئ والمتيمم متطهر‏.‏ والفرجان جاءت السنة بالاكتفاء فيهما بالاستجمار‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، يدل على أن الاستنجاء مستحب، يحبه الله، لا أنه واجب‏.‏ بل لما كان غير هؤلاء من المسلمين لا يستنجون بالماء ـ ولم يذمهم على ذلك بل أقرهم‏.‏ ولكن خص هؤلاء بالمدح ـ دل على جواز ما فعله غير هؤلاء‏.‏ وأن فعل هؤلاء أفضل، وأنه مما فضل الله به الناس بعضهم على بعض‏.‏
فَصْـــل
الترتيب في الوضوء وغيره من العبادات والعقود، النزاع فيه مشهور‏.‏
فمذهب الشافعي وأحمد‏:‏ يجب‏.‏ ومذهب مالك وأبي حنيفة‏:‏ لا يجب‏.‏ وأحمد قد نص على وجوبه نصوصًا متعددة‏.‏ ولم يذكر المتقدمون ـ كالقاضي، ومن قبله ـ عنه نزاعًا‏.‏
قال أبو محمد‏:‏ لم أر عنه فيه خلافًا‏.‏
قال‏:‏ وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد‏:‏ أنه غير واجب‏.‏
قلت‏:‏ هذه أخذت من نصه في القبضة للاستنشاق‏.‏ فلو أخر غسلها إلى ما بعد غسل الرجلين‏:‏ ففيه عن أحمد روايتان منصوصتان‏.‏ فإنه قال في إحدى الروايتين‏:‏ إنه لو نسيهما حتى صلى، تمضمض واستنشق، وأعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء؛ لما في السنن عن المقدام ابن معدي كرب ؛ أنه أتي بوضوء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا ثم تمضمض واستنشق‏.‏
فغير أبي الخطاب فرق بينهما وبين غيرهما، بأن الترتيب إنما يجب فيما ذكر في القرآن‏.‏ وهما ليسا في القرآن‏.‏
وأبو الخطاب ـ ومن تبعه ـ رأوا هذا فرقًا ضعيفًا‏.‏
فإن الأنف والفم لو لم يكونا من الوجه لما وجب غسلهما‏.‏ ولهذا خرج الأصحاب‏:‏ أنهما من الوجه‏.‏ كما قال الخرقي وغيره‏:‏ والفم والأنف من الوجه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بهما غسل الوجه‏.‏ يبدأ بغسل ما بطن منه‏.‏ وقدم المضمضة؛ لأن الفم أقرب إلى الظاهر من الأنف‏.‏ ولهذا كان الأمر به أوكد‏.‏ وجاءت الأحاديث الصحيحة بالأمر به‏.‏ ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل سائر الوجه‏.‏
فإذا قيل بوجوبهما مع النزاع، فهما كسائر ما نوزع فيه‏.‏ مثل البياض الذي بين العذار والأذن، فمالك وغيره يقول‏:‏ ليس من الوجه وفي النزعتين والتحذيف ثلاثة أوجه‏:‏
قيل‏:‏ هما من الرأس ‏.‏ وقيل‏:‏ من الوجه‏.‏
والصحيح ‏:‏ أن النزعتين من الرأس، والتحذيف من الوجه فلو نسي ذلك فهو كما لو نسي المضمضة والاستنشاق‏.‏
فتسوية أبي الخطاب أقوى‏.‏
وعلى هذا‏:‏ فأحمد إنما نص على من ترك ذلك ناسيًا‏.‏ ولهذا قيل له‏:‏ نسي المضمضة وحدها‏؟‏ فقال‏:‏ الاستنشاق عندي أوكد‏.‏ يعني إذا نسي ذلك وصلى‏.‏ قال‏:‏ يغسلهما، ويعيد الصلاة‏.‏ والإعادة إذا ترك الاستنشاق عنده أوكد، للأمر به في الأحاديث الصحيحة‏.‏ وكذلك الحديث المرفوع،فإن جميع من نقل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أخبروا‏:‏ أنه بدأ بهما‏.‏
وهذا حكى فعلاً واحدًا، فلا يمكن الجزم بأنه كان متعمدًا‏.‏
وحينئذ، فليس في تأخيرهما عمدًا سنة، بل السنة في النسيان، فإن النسيان متيقن‏.‏ فإن الظاهر أنه كان ناسيًا إذا قدر الشك‏.‏ فإذا جاز مع التعمد، فمع النسيان أولى‏.‏ فالناسي معذور بكل حال، بخلاف المتعمد‏.‏ وهو القول الثالث‏.‏ وهو الفرق بين المتعمد لتنكيس الوضوء وبين المعذور بنسيان أو جهل‏.‏ وهو أرجح الأقوال‏.‏ وعليه يدل كلام الصحابة، وجمهور العلماء‏.‏
وهو الموافق لأصول المذهب في غير هذا الموضع‏.‏ وهو المنصوص عن أحمد في الصورة التي خرج منها أبو الخطاب‏.‏
فمن ذلك‏:‏ إذا أخل بالترتيب بين الذبح والحلق، فإن الجاهل يعذر بلا خلاف في المذهب‏.‏ وأما العالم المتعمد، فعنه روايتان‏.‏ والسنة إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏أنه‏]‏ كان يسأل عن ذلك فيقول‏:‏‏(‏افعل، ولا حرج‏)‏؛ لأنهم قدموا وأخروا بلا علم‏.‏ لم يتعمدوا المخالفة للسنة‏.‏ وإلا فالقرآن قد جاء بالترتيب لقوله‏:‏ ‏{وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل وأحلق حتى أنحر‏)‏‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 92‏]‏، أدل على الترتيب من قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏
لكن يقال‏:‏ قد فرقوا بأن هذه عبادة واحدة مرتبط بعضها ببعض وتلك عبادات، كالحج والعمرة والصلاة والزكاة‏.‏
وهكذا فرق أبو بكر عبد العزيز بين الوضوء وغيره‏.‏ فقال‏:‏ ذاك كله من الحج‏:‏ الدماء والذبح والحلق والطواف‏.‏ والحج عبادة واحدة‏.‏ ولهذا متي وطئ قبل التحلل الأول فسد الحج عند الجمهور‏.‏ وهل يحصل كالدم وحده، أو كالدم والحلق‏؟‏ على روايتين‏.‏
ومنها‏:‏ إذا نسي بعض آيات السورة في قيام رمضان، فإنه لا يعيدها، ولا يعيد ما بعدها، مع أنه لو تعمد تنكيس آيات السورة وقراءة المؤخر قبل المقدم، لم يجز بالاتفاق‏.‏ وإنما النزاع في ترتيب السور‏.‏ نص على ذلك أحمد‏.‏ وحكاه عن أهل مكة‏.‏ سئل عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة‏.‏ تري لمن خلفه أن يقرأها، قال‏:‏ نعم‏.‏ ينبغي له أن يفعل‏.‏ قد كانوا بمكة يوكلون رجلا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها‏.‏ فإذا كان ليلة الختمة أعاده‏.‏
قال الأصحاب ـ كأبي محمد ـ ‏:‏ وإنما استحب ذلك لتتم الختمة‏.‏ ويكمل الثواب‏.‏
فقد جعل أهل مكة وأحمد وأصحابه إعادة المنسي من الآيات وحده يكمل الختمة والثواب، وإن كان قد أخل بالترتيب هنا‏.‏ فإنه لم يقرأ تمام السورة‏.‏ وهذا مأثور عن على ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ أنه نسي آية من سورة، ثم في أثناء القراءة قرأها، وعاد إلى موضعه، ولم يشعر أحد أنه نسي إلا من كان حافظًا‏.‏
فهكذا من ترك غسل عضو أو بعضه نسيانا يغسله وحده، ولا يعيد غسل ما بعد، فيكون قد غسله مرتين‏.‏ فإن هذا لا حاجة إليه‏.‏
وهذا التفصيل يوافق ما نقل عن الصحابة والأكثرين، فإن الأصحاب وغيرهم فعلوا كما نقله ابن المنذر عن علي، ومكحول والنخعي، والزهري والأوزاعي‏.‏ فيمن نسي مسح رأسه، فرأى في لحيته بللا فمسح به رأسه‏.‏ فلم يأمروه بإعادة غسل رجليه، واختاره ابن المنذر‏.‏
وقد نقل عن علي وابن مسعود‏:‏ ما أبالي بأي أعضائي بدأت‏.‏ قال أحمد‏:‏ إنما عني به اليسرى على اليمنى؛ لأن مخرجهما من الكتاب واحد‏.‏
ثم قال أحمد‏:‏ حدثني جرير عن قابوس عن أبيه‏:‏ أن عليًّا سئل فقيل له‏:‏ أحدنا يستعجل، فيغسل شيئًا قبل شيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ حتى يكون كما أمره الله تعالى‏.‏ فهذا الذي ذكره أحمد عن على يدل على وجوب الترتيب‏.‏
وما نقله ابن المنذر في صورة النسيان‏:‏ يدل على أن الترتيب يسقط مع النسيان، ويعيد المنسي فقط‏.‏
فدل على أن التفصيل قول على ـ رضي الله عنه‏.‏
وقد ذكر من أسقطه مطلقًا‏:‏ ما روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك‏.‏
لكن قال أحمد وغيره‏:‏ لا نعرف لهذا أصلاً، ونقلوا في الوجوب عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن‏.‏ وهؤلاء أئمة التابعين‏.‏
وصورة النسيان مرادة قطعًا‏.‏ فتبين أنها قول جمهور السلف أو جميعهم‏.‏
والأمر المنكر‏:‏ أن تتعمد تنكيس الوضوء‏.‏ فلا ريب أن هذا مخالف لظاهر الكتاب، مخالف للسنة المتواترة‏.‏ فإن هذا لو كان جائزًا لكان قد وقع أحيانًا، أو تبين جوازه ـ كما في ترتيب التسبيح ـ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الكلام ـ بعد القرآن ـ أربع، وهن من القرآن‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله والله أكبر‏.‏ لا يضرك بأيتهن بدأت‏.‏
ومما يدل على ذلك شرعًا ومذهبًا‏:‏ أن من نسي صلاة صلاها إذا ذكرها بالنص‏.‏
وقد سقط الترتيب هنا في مذهب أحمد بلا خلاف‏.‏ ومذهب أبي حنيفة وغيره‏.‏
ولكن حكي عن مالك‏:‏ أنه لا يسقط، وقاسوا ذلك على ترتيب الطهارة‏.‏
وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‏)‏ نص في أنه يصليها في أي وقت ذكر‏.‏ وليس عليه غير ذلك‏.‏
وقد سلم الأصحاب‏:‏ أن ترتيب الجمع لا يسقط بالنسيان‏.‏
وعموم الحديث يدل على سقوطه، فلو كانت المنسية هي الأولي من صلاتي الجمع، أعادها وحدها بموجب النص‏.‏ ومن أوجب إعادة الثانية فقد خالف‏.‏
وكذلك يقال في سائر أهل الأعذار، كالمسبوق إذا أدركهم في الثانية، صلاها معهم، ثم صلى الأولى‏.‏ كما لو أدرك بعض الصلاة‏.‏ وليس ترتيب صلاته على أول الصلاة بأعظم من ترتب آخر الصلاة على أولها‏.‏
وإذا كان هكذا سقط ما أدرك، ويقضى ما سقط، فهذا في الصلاتين أولي لاسيما وهو إذا لم يدرك من المغرب إلا تشهدا تشهد ثلاث تشهدات، كما في حديث ابن مسعود المشهور في قصة مسروق وحديثه ‏.‏
وهذا أصل ثابت بالنص والإجماع، يعتبر به نظائره، وهو سقوط الترتيب عن المسبوق‏.‏
وكانوا في أول الإسلام لا يرتبون‏.‏ فيصلون ما فاتهم‏.‏ ثم يصلون مع الإمام، لكن نسخ ذلك‏.‏ وقد روي أن أول من فعله معاذ‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد سن لكم معاذ فاتبعوه‏)‏‏.‏
والأئمة الأربعة‏:‏ على أنه يقرأ في ركعتي القضاء بالحمد وسورة‏.‏
وكذلك لو أدرك الإمام ساجدًا سجد معه بالنص واتفاق الأئمة‏.‏
فقد سجد قبل القيام لمتابعة الإمام وإن لم يعتد به‏.‏ لكنه لو فعل هذا عمدًا لم يجز‏.‏ فلو كبر وسجد ثم قام، لم تصح صلاته‏.‏
لكن هذا يستدل به على أن الركعة الواحدة يجب فيها الترتيب‏.‏ فإن هذا السجود ـ ولو ضم إليه بعد السلام ركوعًا مجردًا ـ لم يصر ذلك ركعة، بل عليه أن يأتي بركعة بعدها سجدتان؛ لأنه أخل بالترتيب والموالاة‏.‏
فكذلك إذا نسي الركوع حتى تشهد وسلم، ففيه قولان في المذهب‏:‏ هل تبطل صلاته‏؟‏ والمنصوص‏:‏ إن لم يطل الفصل بني على ما مضي، وهو قول الشافعي ـ رحمه الله ـ وغيره‏.‏
وذهب طائفة من العلماء إلى سقوط الموالاة والترتيب في الصلاة مع النسيان‏.‏ فقال مكحول، ومحمد بن أسلم ـ في المصلي ينسي سجدة أو ركعة ـ ‏:‏يصليها متي ما ذكرها‏.‏ ويسجد للسهو‏.‏ وقال الأوزاعي ـ لرجل نسي سجدة من صلاة الظهر، فذكرها في صلاة العصر ‏:‏ يمضي في صلاته، فإذا فرغ سجد‏.‏
ويدل على هذا القول‏:‏ أحاديث سجود السهو، فإنها تدل على أنه يتم الصلاة، ثم يسجد للسهو، ولو مع طول الفصل‏.‏
وأما المسبوق‏:‏ فالسجود الذي فعله مع الإمام كان لمتابعة الإمام‏.‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة‏:‏ ‏(‏زادك الله حرصًا، ولا تعد‏)‏ وهو متمكن من أن يأتي بالركعة بعد السلام فلا عذر له حتى‏.‏‏.‏‏.‏ وإذا نسي ركنًا من الأولى حتى شرع في الثانية‏.‏ ففيها قولان‏.‏
مالك وأحمد لا يقولان بالتلفيق‏.‏ بل تلغو المنسي ركنها‏.‏ وتقوم هذه مقامها‏.‏ ولكن هل يكون ذلك بالقراءة أو بالركوع‏؟‏ فيه نزاع‏.‏
والشافعي يقول‏:‏ ما فعله بعد الركوع المنسي، فهو لغو؛ لأن فعله في غير محله لا أن يفعل نظيره في الثانية‏.‏ فيكون هو تمام الأول، كما لو سلم من الصلاة، ثم ذكر‏.‏ فإن السلام يقع لغوًا‏.‏
فأحمد ومالك يقولان‏:‏ هو إنما يقصد بما فعله أن يكون من الركعة الثانية‏.‏ لم يقصد أن يكون من الأولي، وهو إذا قرأ وركع في الركعة الثانية‏:‏ أمكن أن يجعلها هي الأولي‏.‏ فإن الترتيب بين الركعات يسقط بالعذر، فلا وجه لإبطال هذه، ولا يكون فاعلا له في غير محله، إلا إذا جعلت هذه ثانية‏.‏ فإذا جعلت الأولى، كان قد فعله في محله‏.‏
وإذا قيل‏:‏ هو قصد الثانية قبل، وقصد بالسجود فيها السجود في الثانية لرعاية ترتيبه في أبعاض الركعة بألا يجعل بعضها في ركعة غيرها، أولي من رعايتها في الركعتين‏.‏ فإن جعل الأولي ثانية يجوز للعذر، كما في المسبوق‏.‏ وأما جعل سجود الثانية تمامًا للأولى، فلا نظير له في الشرع‏.‏ وبسط هذا له مكان آخر‏.‏
والمقصود هنا سقوط الترتيب في الوضوء بالنسيان، وكذلك سقوط الموالاة كما هو قول مالك‏.‏ وكذلك بغير النسيان من الأعذار، مثل بعد الماء‏.‏ كما نقل عن ابن عمر‏.‏ فإن الصلاة نفسها إذا جاز فيها عدم الموالاة للعذر، فالوضوء أولي‏:‏ بدليل صلاة الخوف في حديث ابن عمر، وأحاديث سجود السهو ‏.‏
وأما حديث صاحب اللمعة، التي كانت في ظهر قدمه‏:‏ فمثل هذا لا ينسى، فدل أنه تركها تفريطًا‏.‏
والموالاة في غسل الجنابة‏:‏ لا تجب، للحديث الذي فيه أنه‏:‏ رأى في بدنه موضعًا لم يصبه الماء‏.‏ فعصر عليه شعره‏.‏
والأصحاب فرقوا بينه وبين الوضوء‏.‏ فإنه لا يجب ترتيبه، فكذلك الموالاة‏.‏ ومالك يوجب الموالاة، وإن لم يوجب الترتيب في الوضوء‏.‏
وأما في الغسل، فالبدن كعضو واحد‏.‏ والعضو الواحد لا ترتيب فيه بالاتفاق‏.‏ وأما تعمد تفريق الغسل، فهو كتعمد تفريق غسل العضو الواحد‏.‏ لكن فرق بينهما، فإن غسل الجنابة كإزالة النجاسة، لا يتعدى حكم الماء محله، بخلاف الوضوء‏.‏ فإن حكمه طهارة جميع البدن، والمغسول أربعة أعضاء‏.‏ وهذا محل نظر‏.‏ والجنب إذا وجد بعض ما يكفيه استعمله‏.‏ وأما المتوضئ، ففيه قولان للأصحاب‏.‏ ومن جوز ذلك جعل الوضوء يتفرق للعذر، وجعل ما غسل يحصل به بعض الطهارة‏.‏ وكذلك الماسح على الخفين إذا خلعهما‏.‏ هل يقتصر على مسح الرجلين أو يعيد الوضوء‏؟‏ فيه قولان، هما روايتان‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن المأخذ هو الموالاة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المأخذ أن الوضوء لا ينتقض، فإذا عاد الحدث إلى الرجل عاد إلى جميع الأعضاء، وهذا عند العذر‏:‏ فيه نزاع كما تقدم‏.‏
وقد يكون الترتيب شرطًا لا يسقط بجهل ولا نسيان، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم‏)‏، فالذبح للأضحية‏:‏ مشروط بالصلاة قبله‏.‏ وأبو بُردة ابن نيار ـ رضي الله عنه ـ كان جاهلاً‏.‏ فلم يعذره بالجهل، بل أمره بإعادة الذبح‏.‏ بخلاف الذين قدموا في الحج‏:‏ الذبح على الرمي، أو الحلق على ما قبله‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏(‏افعل ولا حرج‏)‏ فهاتان سنتان‏:‏ سنة في الأضحية، إذا ذبحت قبل الصلاة‏:‏ أنها لا تجزئ‏.‏ وسنة في الهدي، إذا ذبح قبل الرمي جهلا‏:‏ أجزأ‏.‏
والفرق بينهما ـ والله أعلم ـ أن الهدي صار نسكًا بسوقه إلى الحرم وتقليده وإشعاره‏.‏ فقد بلغ محله في المكان والزمان‏.‏ فإذا قدم جهلاً، لم يخرج عن كونه هديًا‏.‏ وأما الأضحية‏:‏ فإنها قبل الصلاة لا تتميز عن شاة اللحم‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ذبح قبل الصلاة، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله، وإنما هي نسك بعد الصلاة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏، فصار فعله قبل هذا الوقت‏:‏ كالصلاة قبل وقتها‏.‏
فهذا وقت الأضحية وقته بعد فعل الصلاة، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهو قول الجمهور من العلماء ـ مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وغيرهم ـ وإنما قدر وقتها بمقدار الصلاة‏:‏ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، كالخرقي‏.‏
وفي الأضحية‏:‏ يشترط في أحد القولين أن يذبح بعد الإمام‏.‏ وهو قول مالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، ذكره أبو بكر، والحجة فيه حديث جابر في الصحيح‏.‏
وقد قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏1‏]‏ نزلت في ذلك وكذلك في الإفاضة من عرفة قبل الإمام قولان في مذهب أحمد‏:‏ يجب فيه دم، فهذا عند من يوجبه بمنزلة اتباع المأموم الإمام في الصلاة‏.‏

فَصْــل
وما ذكره من نصه على قراءة ما نسي، يدل على أن الترتيب يسقط بالنسيان في القراءة‏.‏ وقد ذكر أحمد وأصحابه أن موالاة الفاتحة واجبة، وإذا تركها لعذر نسيان، قالوا ـ واللفظ لأبي محمد ـ‏:‏ وإن كثر ذلك ـ أي الفصل ـ استأنف قراءتها إلا أن يكون المسكوت مأمورًا به، كالمأموم يشرع في قراءة الفاتحة ثم يسمع قراءة الإمام فينصت له‏.‏ ثم إذا سكت الإمام، أتم قراءتها وأجزأته، أومأ إليه أحمد‏.‏ وكذلك إن كان السكوت نسيانًا أو نوبا، أو لانتقاله إلى غيرها غلطًا، لم تبطل‏.‏ فإذا ذكر، أتى بما بقي منها‏.‏ فإن تمادى فيما هو فيه ـ بعد ذكرها ـ أبطلها‏.‏ ولزمه استئنافها‏.‏ قال‏:‏ وإن قدم آية منها في غير موضعها، أبطلها‏.‏ وإن كان غلطًا، رجع إلى موضع الغلط فأتمها‏.‏
فلم يسقطوا الترتيب بالعذر، كما أسقطوا الموالاة، فإن الموالاة أخف‏.‏ فإنه لو قرأ بعض سورة اليوم وبعضها غدًا، جاز‏.‏ ولو نكسها، لم يجز‏.‏
ويفرق في الترتيب بين الكلام المستقل الذي إذا أتي به وحده كان مما يسوغ تلاوته، وبين ما هو مرتبط بغيره‏.‏ فلو قال‏:‏‏{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}‏ لم يكن هذا كلامًا مفيدًا حتى يقول‏:‏ ‏{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}‏
ولو قال‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ثم قال‏:‏ ‏{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2 ـ 7‏]‏، كان مفيدًا‏.‏ لكن مثل هذا لا يقع فيه أحد‏.‏ ولا يبتدئ أحد الفاتحة بمثل ذلك، لا عمدًا ولا غلطًا‏.‏ وإنما يقع الغلط فيما يحتاج فيه إلى الترتيب‏.‏ فهذا فرق بين ما ذكروه فيما ينسي من الفاتحة وما ينسي من الختمة‏.‏
فَصْــل
ومما يبين أن الترتيب يسقط إذا احتاج إلى التكرار بلا تفريط من الإنسان، أن التيمم يجزئ بضربة واحدة، كما دل عليه الحديث الصحيح حديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ وهو مذهب أحمد بلا خلاف‏.‏ وهو في الصحيحين من حديث أبي موسى‏.‏ ومن حديث ابن أبزي ‏.‏
ففي حديث ابن أبزي‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك هكذا‏.‏ فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما‏.‏ ثم مسح بهما وجهه وكفيه‏)‏ وكذلك لمسلم في حديث أبي موسى‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك أن تقول هكذا‏.‏ وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه‏.‏ فمسح وجهه وكفيه‏)‏ وللبخاري‏:‏ ‏(‏ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة‏)‏‏.‏
وقد اختلف الأصحاب في هذه الصفة‏.‏
فقيل‏:‏ يرتب، فيمسح وجهه ببطون أصابعه، وظاهر يديه براحته‏.‏
وقيل‏:‏ لا يجب ذلك، بل يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه‏.‏
وعلى الوجهين‏:‏ لا يؤخر مسح الراحتين إلى ما بعد الوجه‏.‏ بل يمسحهما‏:‏ إما قبل الوجه، وإما مع الوجه، وظهور الكفين، ولهذا قال ابن عقيل‏:‏ رأيت التيمم بضربة واحدة‏.‏
قد أسقط ترتيبًا مستحقًا في الوضوء، وهو أنه بعد أن مسح باطن يديه مسح وجهه‏.‏
وفي الصحيحين من حديث عمار بن ياسر من طريق أبي موسى ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ ‏(‏إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا‏)‏ ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه‏.‏ لفظ البخاري‏:‏ وضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله ـ أو ظهر شماله بكفه ـ ثم مسح بهما وجهه‏.‏
وهذا صريح في أنه لم يمسح الراحتين بعد الوجه، ولا يختلف مذهب أحمد أن ذلك لا يجب‏.‏ وأما ظهور الكفين، فرواية البخاري صريحة في أنه مر على ظهر الكف قبل الوجه وقوله في الرواية الأخرى‏:‏ وظاهر كفيه يدل على أنه مسح ظاهر كل منهما براحة اليد الأخرى‏.‏ وقال فيها‏:‏ ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه قبل الوجه‏.‏
وقال أبو محمد‏:‏ فرض الراحتين سقط بإمرار كل واحدة على ظهر الكف، وهذا إنما يوجب سقوط فرض باطن الراحة‏.‏ وأما باطن الأصابع، فعلى ما ذكره سقط مع الوجه‏.‏
وعلى كل حال، فباطن اليدين يصيبهما التراب حين يضرب بهما الأرض، وحين يمسح بهما الوجه، وظهر الكفين‏.‏ وإن مسح إحداهما بالأخرى، فهو ثلاث مرات‏.‏
ولو كان الترتيب واجبًا، لوجب أن يمسح باطنهما بعد الوجه‏.‏ وهذا لا يمكن مع القول بضربة واحدة‏.‏ ولو فعل ذلك للزم تكرار مسحهما مرة بعد مرة، فسقط لذلك‏.‏ فإن التيمم لا يشرع فيه التكرار، بخلاف الوضوء؛ فإنه ـ وإن غسل يديه ابتداء، وأخذ بهما المـاء لوجهه ـ فهو بعد الوجه يغسلهما إلى المرفقين‏.‏ وهو يأخذ الماء بهما‏.‏ فيتكرر غسلهما؛ لأن الوضوء يستحب فيه التكرار في الجملة؛ لأنه طهارة بالماء‏.‏ ولكن لو لم يغسل كفيه بعد غسل الوجه، فهو محل نظر، فإنه يغرف بهما الماء، وقد قالوا‏:‏ إذا نوى الاغتراف لم يصر الماء مستعملاً‏.‏ وإن نوى غسلهما فيه، صار مستعملاً‏.‏ وإن لم ينو شيئًا ففيه وجهان‏.‏
والصحيح‏:‏ أنه لا يصير مستعملاً، وإن نوى غسلهما فيه؛ لمجيء السنة بذلك، وهذا يقتضي أن غسلهما بنية الاغتراف لا تحصل به طهارتهما بل لابد من غسل آخر‏.‏
والأقوى‏:‏ أن هذا لا يجب، بل غسلهما بنية الاغتراف يجزئ عن تكرار غسلهما، كما في التيمم‏.‏
وأيضًا، فإنه يغسل ذراعيه بيديه، فيكون هذا غسلاً لباطن اليد‏.‏
ولو قيل‏:‏ بل بقي غسلهما ابتداء، ومع الوجه يسقط فرضهما ـ كما قيل مثل ذلك في التيمم ـ لكان متوجهًا‏.‏ فإنه قال في الوضوء‏:‏‏{فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}‏ كما قال في التيمم‏:‏ ‏{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، ففي الوضوء أخر ذكر اليد‏.‏
لكن الرواية التي انفرد بها البخاري، تبين أنه مسح ظهر الكفين قبل الوجه‏.‏ وسائر الروايات مجملة، تقتضي أنه لما مسح لم يمسح الراحتين بعد الوجه، فكذلك ظهر الكفين، بل مسح ظهرهما مع بطنهما؛ لأن مسحهما جملة أقرب إلى الترتيب‏.‏ فإن مسح العضو الواحد بعضه مع بعض أولى من تفريق ذلك‏.‏
وأيضًا، فتكون الراحتان ممسوحتين مع ظهر الكف، والاعتداد بذلك أولى من الاعتداد بمسحهما مع الوجه‏.‏
وما ذكره بعض الأصحاب ـ من أنه يجعل الأصابع للوجه، وبطون الراحتين لظهور الكفين ـ خلاف ما جاءت به الأحاديث‏.‏ وليس في كلام أحمد ما يدل عليه‏.‏ وهو متعسر، أو متعذر‏.‏ وهو بدعة لا أصل لها في الشرع‏.‏ وبطون الأصابع لا تكاد تستوعب الوجه‏.‏
وإنما احتاجوا إلى هذا ليجعلوا بعض التراب لظاهر الكفين بعد الوجه‏.‏
فيقال لهم‏:‏ كما أن الراحتين لا يمسحان بعد الوجه بلا نزاع، فكذلك ظهر الكفين‏.‏ فإنهم ـ وإن مسحوا ظهر الكفين بالراحتين ببطون الأصابع ـ مسحوا مع الوجه، مسح باليدين قبل الوجه، كما قال ابن عقيل؛ ولهذا اختار المجد‏:‏ أنه لا يجب الترتيب فيه، بل يجوز مسح ظهر الكفين قبل الوجه، كما دل عليه الحديث الصحيح، والحديث الصحيح يدل على أنه يمسح الوجه وظاهر الكفين بذلك التراب، وأن مسح ظهر الكفين بما بقي في اليدين من التراب يكفي لظهر الكفين‏.‏ فإن ألفاظ الحديث كلها تتعلق بأنه يمسح وجهه بيديه، ومسح اليدين إحداهما بالأخرى، لم يجعل بعض باطن اليد للوجه وبعضه للكفين، بل بباطن اليدين مسح وجهه ومسح كفيه، ومسح إحداهما بالأخرى‏.‏
وأجاب القاضي ومن وافقه ـ متابعة لأصحاب الشافعي ـ بأنه إذا تيمم لجرح في عضو، يكون التيمم فيه عند وجوب غسله، فيفصل بالتيمم بين أبعاض الوضوء، هذا فعل مبتدع، وفيه ضرر عظيم، ومشقة لا تأتي بها الشريعة‏.‏ وهذا ونحوه إسراف في وجوب الترتيب، حيث لم يوجبه الله ورسوله‏.‏ والنفاة يجوزون التنكيس لغير عذر، وخيار الأمور أوساطها، ودين الله بين الغالي والجافي‏.‏ والله أعلم‏.
وَسُئِلَ‏:‏هل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر، أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
يقوم التيمم مقام الطهارة بالماء‏.‏ فما يبيحه الاغتسال والوضوء من الممنوعات يبيحه التيمم‏.‏

وَسُئِلَ أيضًا ـ رَحمه الله ـ عن رجل قد أصابته جنابة وهو في بستان، ولم يكن عنده إلا ماء بارد، ويخاف الضرر على نفسه باستعماله، والحمام بعيد منه؛ بحيث إذا وصل إلى الحمام واغتسل خرج الوقت‏.‏ فهل إذا تيمم للجنابة وتوضأ وصلى في الوقت يلزمه إعادة‏؟‏ وهل يأثم بذلك أو يأثم إذا تيمم‏؟‏ وهل التيمم يقوم مقام الماء؛ فيجوز له التيمم لنافلة ويصلي بها فريضة، أو يصلي فريضتين في وقتين بتيمم واحد‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للَّه رب العالمين، يجب على كل مسلم أن يصلي الصلوات الخمس في مواقيتها، وليس لأحد قط أن يؤخر الصلاة عن وقتها، لا لعذر، ولا لغير عذر‏.‏ لكن العذر يبيح له شيئين‏:‏ يبيح له ترك ما يعجز عنه، ويبيح له الجمع بين الصلاتين‏.‏
فما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه‏.‏ قال
الله تعالى‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ‏{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏‏.‏ وقال ـ لما ذكر آية الطهارة ـ‏:‏ ‏{مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقد روي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‏.‏ وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏
فالمريض يصلى على حسب حاله‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا‏.‏ فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏‏.‏ وسقط عنه ما يعجز عنه من قيام، وقعود، أو تكميل الركوع والسجود، ويفعل ما يقدر عليه‏.‏ فإن قدر على الطهارة بالماء تطهر، وإذا عجز عن ذلك؛ لعدم الماء، أو خوف الضرر باستعماله تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء، وكذلك لا إعادة إذا صلى بالتيمم باتفاقهم، ولو كان في بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها صلى بها ولا إعادة عليه ـ أيضًا ـ عند عامة العلماء‏.‏
ولو لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فقيل‏:‏ يصلى عريانًا‏.‏ وقيل‏:‏ يصلى ويعيد‏.‏ وقيل‏:‏ يصلى في الثوب النجس ولا يعيد‏.‏ وهو أصح أقوال العلماء‏.‏
وكذلك المسافر إذا لم يقدر على استعمال الماء صلى بالتيمم‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في الحضر‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في السفر‏.‏ وقيل‏:‏ لا إعادة عليه لا في الحضر ولا في السفر‏.‏ وهو أصح أقوال العلماء‏.‏ فالصحيح من أقوالهم أنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب الاستطاعة، وإنما يعيد من ترك واجبًا يقدر عليه‏.‏ مثل من تركه لنسيانه، أو نومه‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء من قدمه يعيد الوضوء والصلاة ‏.‏
وما ترك لجهله بالواجب، مثل من كان يصلى بلا طمأنينة، ولا يعلم أنها واجبة، فهذا قد اختلفوا فيه‏:‏ هل عليه الإعادة بعد خروج الوقت أو لا‏؟‏ على قولين معروفين‏.‏ وهما قولان في مذهب أحمد وغيره، والصحيح أن مثل هذا لا إعادة عليه‏:‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال للأعرابى المسىء في صلاته‏:‏ ‏(‏اذهب فصل فإنك لم تصل ـ مرتين أو ثلاثًا ـ فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني ما يجزيني في صلاتي‏)‏‏.‏ فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بالطمأنينة، ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك الوقت، مع قوله‏:‏ والذى بعثك بالحق لا أحسن غير هذا‏.‏ ولكن أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق‏.‏ فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها‏.‏ وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته مع كونه قد ترك بعض واجباته؛ لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه‏.‏
وكذلك لم يأمر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن يقضي ما تركه من الصلاة؛ لأجل الجنابة؛ لأنه لم يكن يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم‏.‏
وكذلك المستحاضة قالت له‏:‏ إني أُسْتَحَاض حيضة شديدة منكرة تمنعني الصوم والصلاة فأمرها أن تتوضأ لكل صلاة، ولم يأمرها بقضاء ما تركته‏.‏
وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود، أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة، فهؤلاء كانوا جهالاً بالوجوب، فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال الجهل، كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال كفره وجاهليته، بخلاف من كان قد علم الوجوب، وترك الواجب نسيانًا، فهذا أمره به إذا ذكره‏.‏
وأمر النائم من حين يستيقظ، فإنه حين النوم لم يكن مأمورًا بالصلاة، فلهذا كان النائم إذا استيقظ قرب طلوع الشمس يتوضأ ويغتسل، وإن طلعت الشمس عند جمهور العلماء ـ كالشافعى وأحمد وأبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك ـ بخلاف من كان مستيقظًا والوقت واسع، مثل الذى يكون نائمًا في بستان أو قرية والماء بارد يضره، والحمام بعيد منه إن خرج إليه ذهب الوقت، فإنه يتيمم ويصلى في الوقت، ولا يؤخر الصلاة بعد خروج الوقت‏.‏
وكذلك لو كان في المصر وقد تعذر عليه دخول الحمام؛ إما لكونه لم يفتح، أو لبعدها عنه، أو لكونه ليس معه ما يعطى الحمامى أجرته ونحو ذلك، فإنه يصلى بالتيمم؛ لأن الصلاة بالتيمم فرض إذا عجز عن الماء لعدم، أو لخوف الضرر باستعماله، ولا إعادة على أحد من هؤلاء، ففي كثير من الضرر لا إعادة عليه باتفاق المسلمين‏:‏ كالمريض والمسافر‏.‏ وبعض الضرر تنازع فيه العلماء‏.‏ والصحيح أنه لا إعادة على أحد صلى بحسب استطاعته كما أمر‏.‏
فمن صور النزاع من عدم الماء في الحضر، ومن تيمم لخشية البرد‏.‏ وكذلك سائر من ترك واجبًا لعذر نادر غير متصل، فإنه تجب عليه الإعادة عند الشافعى وأحمد في إحدى الروايتين، ولا تجب عليه الإعادة عند مالك، وأكثر العلماء، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏
وإذا فوت الصلاة حتى خرج الوقت بأن يؤخر صلاة الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، فإنه يأثم بذلك‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله‏)‏ وقد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة في بعض الأوقات كحال المسايفة‏.‏ كقول أبى حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏
والذى عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز تأخير الصلاة بحال، وهو قول مالك والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء، كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، والجمع في هذين الموضعين ثابت بالسنة المتواترة، واتفاق العلماء‏.‏ وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع في السفر إذا جد به السير، وأنه صلى بالمدينة ثمانيًا جمعًا الظهر والعصر، وسبعًا المغرب والعشاء، أراد بذلك ألا يحرج أمته‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏
فلهذا كان مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء كطائفة من أصحاب مالك وغيره‏:‏ أنه يجوز الجمع بين الصلاتين إذا كان عليه حرج في التفريق، فيجمع بينهما المريض، وهو مذهب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي، ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر عند الجمهور ـ كمالك، والشافعي، وأحمد ـ وقال أحمد‏:‏ يجمع إذا كان له شغل‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ إذا كان له عذر يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز الجمع‏.‏
فمذهب فقهاء الحجاز، وفقهاء الحديث ـ كمالك، والشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وأبي ثور، وابن المنذر، وغيرهم ـ يجوز الجمع بين الصلاتين في الجملة، ولا يجوز التفويت بأن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، وصلاة الليل إلى النهار‏.‏
ومذهب طائفة من فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره، أنه لا يجوز الجمع إلا بعرفة، ومزدلفة، وكذلك إذا تعذر فعلها في الوقت أخرها عن الوقت، وقول من أمر بالجمع بين الصلاتين من غير تفويت أرجح من قول من أمر بالتفويت، ولم يأمر بالجمع فإن الكتاب والسنة يدلان على أن اللّه أمر بفعل الصلاة في وقتها، وأمر بالمحافظة عليها‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ هذه نزلت ناسخة لتأخير الصلاة يوم الخندق‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلوا الصلاة لوقتها‏)‏‏.‏
وقد دل الكتاب والسنة على أن المواقيت ‏[‏خمسة‏]‏ في حال الاختيار، وهي‏:‏ ‏[‏ثلاثة‏]‏ في حال العذر، ففي حال العذر إذا جمع بين الصلاتين‏:‏ بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإنما صلى الصلاة في وقتها، لم يصل واحدة بعد وقتها، ولهذا لم يجب عليه عند أكثر العلماء أن ينوي الجمع، ولا ينوي القصر‏.‏ وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في نصوصه المعروفة، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز‏.‏
ولهذا كان عند جمهور العلماء ـ كمالك والشافعي وأحمد ـ إذا طهرت الحائض في آخر النهار صلت الظهر والعصر جميعًا، وإذا طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء جميعًا، كما نقل ذلك عن عبد الرحمن ابن عوف،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 30 يونيو - 11:43


وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بخمس‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأحلت لنا الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي‏.‏ وجعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا‏)‏ وفي لفظ‏:‏ فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة‏.‏ وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدًا، وتربتها لنا طهورًا‏)‏‏.‏
فقد بين صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أن اللّه جعل الأرض لأمته طهورًا، كما جعل الماء طهورًا‏.‏
وعن أبي ذر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏ قال الترمذى ‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ فأخبر أن اللّه جعل الصعيد الطيب طَهُور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏
فمن قال‏:‏ أن التراب لا يطهر من الحدث، فقد خالف الكتاب والسنة‏.‏ وإذا كان مطهرًا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيًا، مع أن اللّه طهر المسلمين بالتيمم من الحدث، فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء، فإنه بدل عن الماء، فهو مطهر ما دام الماء متعذرًا، كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها، وكان ملك صاحبها ملكا مؤقتا إلى ظهور المالك، فإنه كان بدلاً عن المالك، فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها‏.‏ وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به، وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار‏.‏ فيحتاج أن نعتبره بنظير‏.‏ وأما ما شرعه اللّه ورسوله، فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا، ولا نطلب لذلك نظيرًا، مع أن الاعتبار يوافق النص‏.‏ كما قال أحمد ‏:‏ القياس أن تجعل التراب كالماء‏.‏
وعلى هذا القول الصحيح، يتيمم قبل الوقت ـ إن شاء ـ ويصلي ما لم يحدث، أو يقدر على استعمال الماء‏.‏ وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة، ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين، ويقضى به الفائت‏.‏
وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت، ولا حجة في شيء منها ـ ولو ثبتت‏.‏ وقول القائل‏:‏ إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة، قيل له‏:‏ نعم، والإنسان محتاج ألا يزال على طهارة، فيتطهر قبل الوقت؛ فإنه محتاج إلى زيادة الثواب، ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام في الحضر، وقال‏:‏ ‏(‏إني كرهت أن أذكر اللّه إلا على طهر‏)‏، فدل على أن التيمم يكون مستحبًا تارة، وواجبًا أخرى‏.‏ أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبًا عليه أن يتيمم، وإن كان شرطًا للصلاة‏.‏ والتيمم قبل الوقت مستحب، كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب‏.‏
وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته، كالجنازة وصلاة العيد، وغيرهما مما يخاف فوته، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة، كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته، ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه، وقد أصابته جنابة، والماء بارد يضره، فإذا تيمم وصلى التطوع، وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرًا من تفويت ذلك‏.‏
فقول القائل‏:‏ إنه حكم مقيد بالضرورة، فيقدر بقدرها إن أراد به ألا يفعل إلا عند تعذر الماء، فهو مسلم‏.‏ وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبًا، فقد غلط‏.‏ فإن هذا خلاف السنة، وخلاف إجماع المسلمين، بل يتيمم للواجب، ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع، وقراءة القرآن المستحبة، ومس المصحف المستحب‏.‏
واللّه قد جعله طهورًا للمسلمين عند عدم الماء، فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع اللّه عليهم، وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا‏.‏ كما فعله طائفة من الناس‏.‏ أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم‏.‏
ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ولا يجب فيه ترتيب، بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين، ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين، وعلى هذا دلت السنة‏.‏ وبسط هذه المسائل في موضع آخر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل شَيْخ الإسْلام ـ رحمه اللّه ـ عن الرجل إذا لم يجد ماء، أو تعذر عليه استعماله لمرض، أو يخاف من الضرر من شدة البرد، وأمثال ذلك‏.‏ فهل يتيمم أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
التيمم جائز إذا عدم الماء، وخاف المرض باستعماله، كما نبه اللّه تعالى ـ على ذلك بذكر المريض، وذكر من لم يجد الماء‏.‏ فمن كان الماء يضره بزيادة في مرضه؛ لأجل جرح به، أو مرض، أو لخشية البرد ونحو ذلك، فإنه يتيمم سواء كان جنبًا أو محدثا، ويصلي‏.‏
وإذا جاز له الصلاة جاز له الطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد‏.‏ ولا إعادة عليه إذا صلى، سواء كان في الحضر أو في السفر، في أصح قولي العلماء‏.‏
فإن الصحيح‏:‏ أن كل من فعل ما أمر به بحسب قدرته من غير تفريط منه، ولا عدوان، فلا إعادة عليه، لا في الصلاة، ولا في الصيام، ولا الحج‏.‏ ولم يوجب اللّه على العبد أن يصلي الصلاة الواحدة مرتين، ولا يصوم شهرين في عام، ولا يحج حجين‏.‏ إلا أن يكون منه تفريط، أو عدوان‏.‏ فإن نسي الصلاة كان عليه أن يصليها إذا ذكرها، وكذلك إذا نسي بعض فرائضها‏:‏ كالطهارة، والركوع، والسجود‏.‏ وأما إذا كان عاجزًا عن المفروض‏:‏ كمن صلى عريانًا لعدم السترة، أو صلى بلا قراءة لانعقاد لسانه، أو لم يتم الركوع والسجود لمرضه ونحوذ لك، فلا إعادة عليه‏.‏ ولا فرق بين العذر النادر، والمعتاد، وما يدوم وما لا يدوم‏.‏
وقد اتفق المسلمون على أن المسافر إذا عدم الماء صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه، وعلى أن العريان إذا لم يجد سترة صلى، ولا إعادة عليه‏.‏ وعلى أن المريض يصلي بحسب حاله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏ ولا إعادة عليه‏.‏
وَسُئِلَ ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل يصبح جنبًا، وليس عنده ما يدخل به الحمام، ولا يمكنه أن يغتسل في بيته من أجل البرد، فهل له أن يتيمم ويصلي، ويقرأ القرآن أم لا‏؟‏ وهل إذا فعل ذلك تجب عليه الإعادة أم لا‏؟‏ وإذا كان عنده ما يرهنه على أجرة الحمام فهل يجب عليه ذلك أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، يجوز للرجل إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، وإن كان جنبًا‏.‏ فإذا خشي إذا اغتسل بالماء البارد أن يضره، ولا يمكنه الاغتسال بالماء الحار في بيت ولا حمام، ولا غيرهما، جاز له التيمم، ولا إعادة ـ على الصحيح ـ وإن أمكنه دخول الحمام بجعل، وجب عليه ذلك، إذا كان واجدًا لأجرة الحمام من غير إجحاف في ماله، كما يجب شراء الماء للطهارة‏.‏ وإذا كان ممن يمكنه أن يرهن عند الحمامي الطابية والميزب، ويوفيه في أثناء يوم، ونحو ذلك، فعله‏.‏ وإن كان في أداء أجرة الحمام ضرر كنقص نفقة عياله، وقضاء دينه، صلى بالتيمم ‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسُئِلَ ‏:‏ عن رجل وقع عليه غسل، ولم يكن معه في ذلك الوقت ما يدخل به الحمام، ويتعذر عليه الماء البارد لشدة برده، ثم إنه تيمم وصلى الفريضة، وله في الجامع وظيفة فقرأ فيها، ثم بعد ذلك دخل الحمام، هل يأثم أم لا ‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه رب العالمين، لا يأثم بذلك، بل فعل ما أمر به؛ فإن من خاف إذا استعمل الماء البارد أن يحصل له صداع أو نزلة أو غير ذلك من الأمراض، ولم يمكن الاغتسال بالماء الحار، فإنه يتيمم ـ وإن كان جنبًا ـ ويصلي عند جماهير علماء الإسلام ـ كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ـ حتى لو كان له ورد بالليل، وأصابته جنابة، والماء بارد يضره، فإنه يتيمم، ويصلي ورده التطوع، ويقرأ القرآن في الصلاة، وخارج الصلاة، ولا يفوت ورده لتعذر الاغتسال بالماء‏.‏
وهل عليه إعادة الفريضة‏؟‏ على قولين‏:‏
أحدهما ‏:‏ لا إعادة عليه‏.‏ وهو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏
والثاني‏:‏ عليه الإعادة، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏ هذا إذا كان في الحضر‏.‏ وأما المسافر فهو أولى ألا يعيد وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه، وكل من جازت له الصلاة بالتيمم جازت له القراءة واللبث في المسجد بطريق الأولى‏.‏
والصحيح‏:‏ أنه لا إعادة عليه، ولا على أحد صلى على حسب استطاعته، وسواء كانت الجنابة من حلال أو حرام، لكن فاعل الحرام عليه جنابة، ونجاسة الذنب‏.‏ فإن تاب وتطهر بالماء، أحبه اللّه‏.‏ فإن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين‏.‏ وإن تطهر ولم يتب، تطهر من الجنابة، ولم يتطهر من نجاسة الذنب فإن تلك لا يزيلها إلا التوبة‏.‏
وإذا لم يكن معه ما يعطى الحمامي جاز له التيمم، ويصلي بلا ريب‏.‏ وإذا لم يكن ممن ينظره الحمامي، ولم يجد ما يرهنه عنده، ولم يقبل منه فهل عليه أن يدخل بالأجرة المؤجلة‏؟‏ فيه قولان‏:‏ هما وجهان في مذهب أحمد‏.‏
والأظهر‏:‏ أنه إذا كان عادة إظهار الحمامي له أن يغتسل في الحمام كالعادة، وإن منعه الحمامي من الدخول من غير ضرر من أن يوفيه حقه لبعض الحمامي، ونحو ذلك، دخل بغير اختيار الحمامي وأعطاه أجرته‏.‏ وإن لم يكن معه أجرة فمنعه لكونه لم يوفه حقه في الحال، ولا هو ممن يعرفه الحمامي لينظره، فهذا ليس له أن يدخل إلا برضا الحمامي، وإن طابت نفس الحمامي بأخذ ماء في الإناء، ولم تطب نفسه بأن يتطهر في دهاليز أبواب الحمام، جاز له أن يفعل ما تطيب به نفس الحمامي، دون ما لا تطيب إلا بعوض المثل‏.‏
وإنما يجب عليه أن يشتري الماء البارد والحار، ويعطي الحمامي أجرة الدخول إذا كان الماء يبذل بثمن المثل، أو بزيادة لا يتغابن الناس بمثلها، مع قدرته على ذلك‏.‏
فإن كان محتاجًا إلى ذلك لنفقته أو نفقة عياله، أو وفاء دينه الذي يطالب به، كان صرف ذلك إلى ما يحتاج إليه من نفقة، أو قضاء دين مقدمًا على صرف ذلك في عوض الماء‏.‏ كما لو احتاج إلى الماء لشرب نفسه، أو دوابه، فإنه يصرفه في ذلك، ويتيمم‏.‏ وإن كانت الزيادة على ثمن المثل لا تجحف بماله، ففي وجوب بذل العوض في ذلك قولان في مذهب أحمد بن حنبل، وغيره‏.‏ وأكثر العلماء على أنه لا يجب‏.‏ واللّه سبحانه أعلم‏.‏
وَسُئِلَ ‏:‏ عن المرأة يجامعها بعلها، ولا تتمكن من دخول الحمام لعدم الأجرة وغيرها‏.‏ فهل لها أن تتيمم‏؟‏ وهل يكره لبعلها مجامعتها والحالة هذه‏؟‏ وكذلك المرأة يدخل عليها وقت الصلاة ولم تغتسل، وتخاف إن دخلت الحمام أن يفوتها الوقت، فهل لها أن تصلي بالتيمم‏؟‏ أو تصلي في الحمام‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، الجنب سواء كان رجلاً أو امرأة، فإنه إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله‏.‏ فإن كان لا يمكنه دخول الحمام لعدم الأجرة أو لغير ذلك، فإنه يصلي بالتيمم، ولا يكره للرجل وطء امرأته كذلك، بل له أن يطأها، كما له أن يطأها في السفر، ويصليا بالتيمم‏.‏
وإذا أمكـن الرجـل أو المرأة أن يغتسل ويصلي خـارج الحمام فعـلاً ذلك، فـإن لم يمكن ذلك ـ مثل ألا يستيقظ أول الفجر، وإن اشتغل بطلب الماء خرج الوقت، وإن طلب حطبًا يسخن به الماء، أو ذهب إلى الحمام فات الوقت ـ فإنه يصلي هنا بالتيمم عند جمهور العلماء، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد قالوا‏:‏ يشتغل بتحصيل الطهارة وإن فات الوقت‏.‏ وهكذا قالوا في اشتغاله بخياطة اللباس، وتعلم دلائل القبلة، ونحو ذلك‏.‏
وهذا القول خطأ‏.‏ فإن قياس هذا القول‏:‏ أن المسافر يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت بالوضوء، وأن العريان يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باللباس‏.‏ وهذا خلاف إجماع المسلمين، بل على العبد أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان، وما عجز عنه من واجبات الصلاة سقط عنه‏.‏
وأمـا إذا استـيقظ آخـر الوقت، أو إن اشـتغل باستقاء الماء من البئر، خرج الوقت، أو إن ذهب إلى الحمام للغسل خرج الوقت، فهذا يغتسل عند جمهور العلماء‏.‏ ومالك ـ رحمـه الله ـ يقـول‏:‏ بل يصلي بالتيمم محافظة على الوقت‏.‏ والجمهور يقـولون‏:‏ إذا استـيقظ آخـر الوقت فهـو ـ حينـئـذ ـ مأمــور بالصــلاة، فـالطهارة والـوقت في حقـه مـن حين استيقظ، وهـو مـا يمكـنـه فعـل الصــلاة فيـه‏.‏ وقـد قـال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مـن نـام عـن صـلاة أو نسـيها فليصلها إذا ذكـرهـا فـإن ذلك وقتها‏)‏‏.‏ فالـوقت المأمـور بالصـلاة فيـه في حـق النائم هـو إذا استـيقظ، لا مـا قبـل ذلك، وفي حق الناسـي إذا ذكر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وأما إذا كانت المرأة أو الرجل يمكنه الذهاب إلى الحمام، لكن إن دخل لا يمكنه الخروج حتى يفوت الوقت، إما لكونه مقهورًا، مثل الغلام الذي لا يخليه سيده يخرج حتى يصلي‏.‏ ومثل المرأة التي معها أولادها فلا يمكنها الخروج حتى تغسلهم، ونحو ذلك‏.‏ فهؤلاء لابد لهم من أحد أمور‏:‏
إما أن يغتسلوا ويصلوا في الحمام في الوقت، وإما أن يصلوا خارج الحمام بعد خروج الوقت، وإما أن يصلوا بالتيمم خارج الحمام‏.‏ وبكل قول من هذه الأقوال يفتي طائفة، لكن الأظهر أنهم يصلون بالتيمم خارج الحمام؛ لأن الصلاة في الحمام منهي عنها، وتفويت الصلاة حتى يخرج الوقت أعظم من ذلك‏.‏ ولا يمكنه الخروج من هذين النهيين إلا بالصلاة بالتيمم في الوقت خارج الحمام‏.‏
وصار هذا كما لو لم يمكنه الصلاة إلا في موضع نجس في الوقت، أو في موضع طاهر بعد الوقت إذا اغتسل، أو يصلي بالتيمم في مكان طاهر في الوقت، فهذا أولى؛ لأن كلا من ذينك منهي عنه‏.‏
وتنازع الفقهاء فيمن حبس في موضع نجس وصلى فيه‏:‏ هل يعيد‏؟‏ على قولين‏:‏
أصحهما‏:‏ أنه لا إعادة عليه، بل الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أنه إن كان قد صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان، فلا إعادة عليه، سواء كان العذر نادرًا أو معتادًا، فإن الله لم يوجب على العبد الصلاة المعينة مرتين، إلا إذا كان قد حصل منه إخلال بواجب، أو فعل محرم‏.‏ فأما إذا فعل الواجب بحسب الإمكان، فلم يأمره مرتين، ولا أمر اللّه أحدًا أن يصلي الصلاة ويعيدها، بل حيث أمره بالإعادة لم يأمره بذلك ابتداء، كمن صلى بلا وضوء ناسيًا، فإن هذا لم يكن مأمورًا بتلك الصلاة، بل اعتقاد أنه مأمور خطأ منه، وإنما أمره اللّه أن يصلي بالطهارة، فإذا صلى بغير طهارة كان عليه الإعادة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي توضأ وترك موضع ظفر من قدمه لم يصبه الماء أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏ وكما أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة‏.‏ وكما أمر المصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة ‏.‏
فأما العاجز عن الطهارة، أو الستارة، أو استقبال القبلة، أو عن اجتناب النجاسة، أو عن إكمال الركوع، والسجود، أو عن قراءة الفاتحة، ونحو هؤلاء ممن يكون عاجزًا عن بعض واجباتها، فإن هذا يفعل ما قدر عليه، ولا إعادة عليه؛ كما قال تعالى ‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏
وَسُئِلَ ‏:‏ عن المرأة إذا كانت بعيدة عن الحمام وحصل لها جنابة، وتخشى من الغسل في البيت من البرد، هل لها أن تتيمم وتصلي‏؟‏ وإذا أراد زوجها الجماع، وتخاف من البرد عليه وعليها‏.‏ هل له أن يتيمم‏؟‏ أو يغتسل ـ مع القدرة ـ وتتيمم هي‏؟‏ أم يترك الجماع‏؟‏ فإذا جامعها وأرادت الدخول إلى الحمام للتطهر، هل تتيمم وتجمع بين الصلاتين‏؟‏ أو تصلي في الحمام بالغسل‏؟‏ وهل لها إذا طهرت من الحيض ولم تغتسل أن تتيمم ويجامعها زوجها أم لا‏؟‏ وهل يحتاج التيمم للجنابة إلى وضوء أم لا‏؟‏ وإذا احتاج هل يقدم الوضوء، أم التيمم‏؟‏ وهل يحتاج التيمم لكل صلاة‏؟‏ أم يصلي الصلوات بتيمم واحد‏؟‏ وإذا طهرت المرأة آخر النهار ـ أو آخر الليل ـ وعجزت عن الغسل للبرد وغيره، هل تتيمم وتصلي‏؟‏ وهل تقضي صلاة اليوم الذي طهرت فيه‏؟‏ أو الليلة‏؟‏
ومن أصابه جرح أو كسر وعَصَبَه هل يمسح على العصابة، أم يتيمم عن الوضوء للمجروح‏؟‏ وبعض الأعضاء يعجز عن إمرار الماء عليه بسبب الجرح أو الكسر، وهل يترك الجماع في هذه الحالة، أو يفعله ويتيمم ولو علم أن مدة المداواة تطول فيطول تيممه‏؟‏ وهل للمرأة ـ أيضا ـ منع الزوج من الجماع إذا كانت لا تقدر على الغسل‏؟‏ أم تطيعه وتتيمم‏؟‏ ومن وجد الحمام بعيدًا متى وصل إليه خرج الوقت هل يتيمم أم يذهب إليه ولو خرج الوقت‏؟‏ ومن خاف فوات الجماعة إذا تطهر بالماء هل يتيمم ليحصل على الجماعة، أم لا‏؟‏ ومن معه رفقة يريدون الجمع فهل الأفضل له الجمع معهم لتحصيل الجماعة‏؟‏ أم يصلي وحده في الوقت‏؟‏ وقد يكون هو إمامهم، فأيما أفضل في حقه جمعا، أم الصلاة وحده في وقت كل صلاة‏؟‏ ومن كان له صناعة يعملها هو وصناع آخر، ويشق عليه الصلاة في وقتها، ويبطل الصناع هل يجمع بين الصلاتين‏؟‏ وكذلك إذا كان في حراثة وزراعة ويشق عليه طلب الماء هل يتيمم ويصلي‏؟‏ ومن يتيمم هل يقرأ القرآن في غير الصلاة‏؟‏ ويصلي ورده بالليل‏؟‏ وهل للمرأة الجنب أو الحائض أن تقرأ على ولدها الصغير‏؟‏ ومن لم يجد ترابا هل يتيمم على البساط أو الحصير إذا كان فيهما غبار‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه رب العالمين، من أصابته جنابة من احتلام أو جماع ـ حلال أو حرام ـ فعليه أن يغتسل ويصلي، فإن تعذر عليه الاغتسال لعدم الماء أو لتضرره باستعماله ـ مثل أن يكون مريضًا يزيد الاغتسال في مرضه، أو يكون الهواء باردًا، وإن اغتسل خاف أن يمرض بصداع أو زكام أو نزلة ـ فإنه يتيمم ويصلي، سواء كان رجلاً أو امرأة، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها، وليس للمرأة أن تمنع زوجها من الجماع، بل له أن يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت‏.‏
وكذلك الرجل إن قدر على الاغتسال وإلا تيمم، وله أن يجامعها قبل دخول الحمام، فإن قدرت على أن تغتسل وتصلي خارج الحمام فعلت، وإن خافت أن تفوتها الصلاة استترت في الحمام وصلت، ولا تفوت الصلاة، والجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة بالماء خير من أن يفرق بين الصلاتين بالتيمم، كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وجعل ذلك خيرًا من التفريق بوضوء‏.‏
وأيضًا، فالجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية، فلأن يكون مشروعًا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر؛ لأجل تكميل الوقوف واتصاله، وإلا فقد كان يمكنه أن ينزل فيصلي، فجمع بين الصلاتين لتكميل الوقوف، فالجمع لتكميل الصلاة أولى‏.‏
وأيضًا، فإنه جمع بالمدينة للمطر، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضرر بالمطر، بل جمع لتحصيل الصلاة في الجماعة، والجمع لتحصيل الجماعة خير من التفريق والانفرد، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في الحمام، فإن أعطان الإبل والحمام نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيهما، والجمع مشروع‏.‏ بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها‏)‏ ثم إنه لما نام عن الصلاة انتقل، وقال‏:‏ ‏(‏هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان‏)‏ فأخر الصلاة عن الوقت المأمور به لكون البقعة حضر فيها الشيطان، وتلك البقعة تكره الصلاة فيها وتجوز، لكن يستحب الانتقال عنها، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل وغيره‏.‏
والحمام وأعطان الإبل مسكن الشياطين؛ ولهذا حرم الصلاة فيها، والجمع مشروع للمصلحة الراجحة‏.‏ فإذا جمع لئلا يصلي في أماكن الشياطين، كان قد أحسن، والمرأة إذا لم يكن يمكنها الجمع بطهارة الماء جمعت بطهارة التيمم، فإن الصلاة بالتيمم في الوقت المشروع خير من التفريق ومن الصلاة في الأماكن المنهي عنها، وإذا أمكن الرجل والمرأة أن يتوضأ ويتيمما فعلاً، فإن اقتصرا على التيمم أجزأهما في إحدى الروايتين للعلماء‏.‏
ومذهب أبي حنيفة ومالك لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم ـ بين الأصل والبدل ـ بل إما هذا وإما هذا‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد ‏:‏ بل يغتسل بالماء ما أمكنه، ويتيمم للباقى‏.‏ وإذا توضأ وتيمم فسواء قدم هذا أو هذا، لكن تقديم الوضوء أحسن‏.‏ ويجوز أن يصلي الصلوات بتيمم واحد، كما يجوز بوضوء واحد، وغسل واحد، في أظهر قولى العلماء‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏‏.‏
والمرأة إذا طهرت من الحيض، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت وصلت‏.‏ فإن طهرت في آخر النهار صلت الظهر والعصر‏.‏ وإن طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء، ولا يقضي أحد ما صلاه بالتيمم‏.‏ وإذا كان الجرح مكشوفا وأمكن مسحه بالماء، فهو خير من التيمم‏.‏
وكذلك إذا كان معصوبًا أو كسر عظمه فوضع عليه جبيرة فمسح ذلك الماء خير من التيمم، والمريض والجريح والمسكور إذا أصابته جنابة بجماع وغيره ـ والماء يضره ـ يتيمم ويصلي، أو يمسح على الجبيرة ويغسل سائر بدنه ـ إن أمكنه ـ ويصلي‏.‏
وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع، بل يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت وصلت‏.‏ وإذا طهرت من الحيض لم يجامعها إلا بعد الاغتسال، وإلا تيممت ووطئها زوجها‏.‏ ويتيمم الواطئ حيث يتيمم للصلاة‏.‏
وإذا دخل وقت الصلاة كطلوع الفجر، ولم يمكنه ـ إذا اغتسل ـ أن يصلي حتى تطلع الشمس، لكون الماء بعيدًا، أو الحمام مغلوقا، أو لكونه فقيرًا وليس معه أجرة الحمام، فإنه يتيمم ويصلي في الوقت، ولا يؤخر الصلاة حتى يفوت الوقت‏.‏ وأما إذا استيقظ ـ وقد ضاق الوقت عن الاغتسال ـ فإن كان الماء موجودًا، فهذا يغتسـل ويصلي بعـد طلوع الشمس ـ عند أكثر العلماء ـ فإن الوقت في حقه من حين استيقظ بخلاف اليقظان فإن الوقت في حقه من حين طلوع الفجر‏.‏
ولا بد من الصلاة في وقتها، ولا يجوز تأخيرها عن الوقت لأحد أصلاً، لا بعذر، ولا بغير عذر، لكن يصلي في الوقت بحسب الإمكان فيصلي المريض بحسب حاله في الوقت‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏ فيصلي في الوقت قاعدًا، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا، وكذلك العراة، كالذين انكسرت بهم السفينة يصلون في الوقت عراة، ولا يؤخرونها ليصلوا في الثياب بعد الوقت‏.‏
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، فيصلي في الوقت بالاجتهاد، والتقليد، ولا يؤخرها ليصلي بعد الوقت باليقين‏.‏
وكذلك من كان عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه، لا يمكنه إزالتها حتى تفوت الصلاة، فيصلي بها في الوقت، ولا يفوت الصلاة ليصلي طاهرًا‏.‏
وكذلك من حبس في مكان نجس، أو كان في حمام، أو غير ذلك مما نهي عن الصلاة فيه، ولا يمكنه الخروج منه حتى تفوت الصلاة، فإنه يصلي في الوقت، ولا يفوت الصلاة ليصلي في غيره‏.‏ فالصلاة في الوقت فرض بحسب الإمكان، والاستطاعة‏.‏ وإن كانت صلاة ناقصة حتى الخائف يصلي صلاة الخوف في الوقت بحسب الإمكان، ولا يفوتها ليصلي صلاة أمن بعد خروج الوقت، حتى في حال المقاتلة يصلي ويقاتل ولا يفوت الصلاة ليصلي بلا قتال، فالصلاة المفروضة في الوقت وإن كانت ناقصة خير من تفويت الصلاة بعد الوقت وإن كانت كاملة بل الصلاة بعد تفويت الوقت عمدًا لا تقبل من صاحبها، ولا يسقط عنه إثم التفويت المحرم، ولو قضاها باتفاق المسلمين‏.‏

فصــل
وأما إذا خاف فوات الجنازة أو العيد، أو الجمعة، ففي التيمم نزاع‏.‏ والأظهر‏:‏ أنه يصليها بالتيمم، ولا يفوتها، وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم‏.‏
ومذهب أحمد في إحدى الروايتين أنه يجوز التيمم للجنازة ـ مع أنه لا يختلف قوله في أنه يجوز أن يعيدها بوضوء ـ فليست العلة على مذهبه تعذر الإعادة، بخلاف أبي حنيفة فإنه إنما علل ذلك بتعذر الإعادة، وفرق بين الجنازة، وبين العيد والجمعة،وأحمد لا يعلل بذلك فكيف والجمعة لا تعاد‏؟‏‏!‏ وإنما تصلي ظهرا‏.‏ وليست صلاة الظهر كالجمعة‏.‏
وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجمعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم، والجمع بين الصلاتين حيث يشرع في الصلاة في وقتها ليس بمفوت، ولا يشترط للقصر ولا للجمع نية عند أكثر العلماء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو إحدى القولين في مذهب أحمد، بل عليه يدل كلامه، وهو المنصوص عليه‏.‏
والقول الآخر‏:‏ اختيار بعض أصحابه، وهو قول الشافعي‏.‏
والجمع بين الصلاتين يجوز لعذر؛ فالمسافر إذا جد به السير جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء‏.‏ والمسافرون إذا غلب عليهم النعاس وشق عليهم انتظار العشاء جمعوا بينها وبين المغرب، ولو كان الإمام لا ينام، فصلاته بهم إمامًا جامعًا بين الصلاتين خير من صلاته وحده غير جامع‏.‏
والحراث إذا خاف إن طلب الماء يسرق ماله، أو يتعطل عمله الذي يحتاج إليه صلى بالتيمم‏.‏ وإن أمكنه أن يجمع بين الصلاتين بوضوء فهو خير من أن يفرق بينهما‏.‏ وكذلك سائر الأعذار الذين يباح لهم التيمم إذا أمكنهم الجمع بينهما بطهارة الماء فهو خير من التفريق بينهما بطهارة التيمم، والجمع بين الصلاتين لمن له عذر كالمطر والريح الشديدة الباردة؛ ولمن به سلس البول، والمستحاضة‏:‏ فصلاتهم بطهارة كاملة جمعًا بين الصلاتين، خير من صلاتهم بطهارة ناقصة مفرقًا بينهما‏.‏
والمريض ـ أيضًا ـ له أن يجمع بين الصلاتين، لاسيما إذا كان مع الجمع صلاته أكمل‏.‏ إما لكمال طهارته، وإما لإمكان القيام، ولو كانت الصلاتان سواء‏.‏ لكن إذا فرق بينهما زاد مرضه، فله الجمع بينهما‏.‏
وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يجوز الجمع إذا كان لشغل‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ الشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة‏.‏ وقال الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي ـ مبينًا عن هؤلاء ـ وهو المريض، ومن له قريب يخاف موته، ومن يدافع أحدًا من الأخبثين، ومن يحضره طعام وبه حاجة إليه، من يخاف من سلطان يأخذه، أو غريم يلازمه ولا شيء معه يعطيه، والمسافر إذا خاف فوات القافلة، ومن يخاف ضررًا في ماله، ومن يرجو وجوده، ومن يخاف من غلبة النعاس حتى يفوته الوقت، ومن يخاف من شدة البرد، وكذلك في الليلة المظلمة إذا كان فيها وحل ـ فهؤلاء يعذروا وإن تركوا الجمعة والجماعة‏.‏ كذا حكاه ابن قدامة في ‏(‏مختصر الهداية‏)‏‏.‏ فإنه يبيح لهم الجمع بين الصلاتين على ما قاله الإمام أحمد بن حنبل، والقاضي أبو يعلى‏.‏
والصناع والفلاحون إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم ـ مثل أن يكون الماء بعيدًا في فعل صلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطل بعض العمل الذي يحتاجون إليه ـ فلهم أن يصلوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين‏.‏ وأحسن من ذلك أن يؤخروا الظهر إلى قُرَيْب العصر فيجمعوها ويصلوها مع العصر، وإن كان ذلك جمعًا في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر‏.‏ ويجوز ـ مع بعد الماء ـ أن يتيمم ويصلي في الوقت الخاص‏.‏ والجمع بطهارة الماء أفضل‏.‏ والحمد للّه وحده‏.‏
فصــل
كل من جاز له الصلاة بالتيمم ـ من جنب، أو محدث ـ جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة، ويمس المصحف، ويصلي بالتيمم النافلة، والفريضة، ويرقى بالقرآن وغير ذلك‏.‏ فإن الصلاة أعظم من القراءة، فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى، والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة، فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة، وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل، يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء، أو خاف الضرر باستعماله‏.‏
وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل، فتوضأ وتيمم عن الغسل، جاز‏.‏ وإن تيمم ولم يتوضأ، ففيه قولان‏:‏ قيل‏:‏ يجزيه عن الغسل، وهو قول مالك وأبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجزيه، وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل‏.‏
وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته، جاز، وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز‏.‏ وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال‏:‏
قيل‏:‏ يجوز لهذا ولهذا، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
وقيل‏:‏ لا يجوز للجنب، ويجوز للحائض، إما مطلقا، أو إذا خافت النسيان، وهو مذهب مالك‏.‏ وقول في مذهب أحمد وغيره‏.‏ فإن قــراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏
وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين، أحاديث ضعيفة، بخلاف روايته عن الشاميين، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات‏.‏ ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن‏.‏ كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء بل أمر الحِيَّض أن يخرجن يوم العيد، فيكبرن بتكبير المسلمين‏.‏ وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏:‏ تلبي وهي حائض، وكذلك بمزدلفة ومنى، وغير ذلك من المشاعر‏.‏
وأما الجنب، فلم يأمره أن يشهد العيد، ولا يصلي، ولا أن يقضي شيئًا من المناسك؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة، بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر‏.‏ ولهذا ذكر العلماء‏:‏ ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر ـ وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك ـ لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر اللّه ودعائه مع كراهة ذلك للجنب‏.‏
فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه؛ لأجل العذر‏.‏ وإن كانت عدتها أغلظ، فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك‏.‏
وإن قيل‏:‏ إنه نهي الجنب؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر، ويقرأ، بخلاف الحائض، تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن، تفويت عبادة تحتاج إليها ـ مع عجزها عن الطهارة ـ وليست القراءة كالصلاة، فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر، والأصغر، والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص، واتفاق الأئمة‏.‏
والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس، واجتناب النجاسة، والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ وهي حائض، وهو حديث صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضًا‏:‏ يقول اللّه ـ عز وجل ـ للنبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إني منزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا، ويقظانًا‏)‏ فتجوز القراءة قائمًا، وقاعدًا وماشيًا، ومضطجعًا‏.‏ وراكبًا‏.‏
وَسُئِلَ عن رجل أرمد فلحقته جنابة، ولا يقدر أن يتطهر بماء مسخن، ولا بارد، ويقدر على الوضوء، فما يصنع ‏؟‏
فأجاب ‏:‏
الحمد للّه، إذا كان به رمد، فإنه يغسل ما استطاع من بدنه‏.‏ وما يضره الماء ـ كالعين وما يقاربها ـ ففيه قولان للعلماء ‏:‏
أحدهما ‏:‏ يتيمم، وهو مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
والثاني‏:‏ ليس عليه تيمم، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، لكن غسل أكثر البدن الذي يمكن غسله واجب باتفاقهم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسُئِل‏:‏َ عن رجل باشر امرأته وهو في عافية، فهل له أن يصبر بالتطهر إلى أن يتضاحى النهار‏؟‏ أم يتيمم ويصلي‏؟‏ أفتونا مأجورين ‏؟‏ ‏.‏
فأجاب ‏:‏
الحمد للّه، لا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت، بل عليه ـ إن قدر على الاغتسال بماء بارد أو حار ـ أن يغتسل ويصلي في الوقت، وإلا تيمم‏.‏ فإن التيمم لخشية البرد جائز باتفاق الأئمة، وإذا صلى بالتيمم فلا إعادة عليه، لكن إذا تمكن من الاغتسال اغتسل‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسُئِلَ‏:‏ عن امرأة بها مرض في عينيها، وثقل في جسمها من الشحم، وليس لها قدرة على الحمام؛ لأجل الضرورة، وزوجها لم يدعها تطهر، وهي تطلب الصلاة، فهل يجوز لها أن تغسل جسمها الصحيح‏؟‏ وتتيمم عن رأسها ‏؟‏
فأجاب ‏:‏
نعم، إذا لم تقـدر على الاغتسال في المـاء البارد، ولا الحـار فعليها أن تصلي في الوقت
بالتيمم، عند جماهير العلماء، لكن مذهب الشافعي وأحمد أنها تغسل ما يمكن، وتتيمم للباقي‏.‏ ومذهب أبي حنيفة ومالك‏:‏ إن غسلت الأكثر، لم تتيمم‏.‏ وإن لم يمكن إلا غسل الأقل، تيممت، ولا غسل عليها‏.‏
وَسُئِلَ عن رجل سافر مع رفقة وهو إمامهم‏.‏ ثم احتلم في يوم شديد البرد، وخاف على نفسه أن يقتله البرد فتيمم، وصلى بهم، فهل يجب عليه إعادة‏؟‏ وعلى من صلى خلفه أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
هذه المسألة هي ثلاث مسائل‏:‏
الأولى‏:‏ أن تيممه جائز، وصلاته جائزة، ولا غسل عليه، والحالة هذه‏.‏ وهذا متفق عليه بين الأئمة، وقد جاء في ذلك حديث في السنن، عن عمرو بن العاص أنه فعل ذلك على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلى بأصحابه بالتيمم في السفر، وإن ذلك ذكر للنبي وكذلك هذا معروف عن ابن عباس‏.‏
الثانية‏:‏ أنه هل يؤم المتوضئين‏؟‏ فالجمهور على أنه يؤمهم، كما أمهم عمرو بن العاص، وابن عباس، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأصح القولين في مذهب أبي حنيفة‏.‏ ومذهب أبي محمد أنه لا يؤمهم‏.‏
الثالثة‏:‏ في الإعادة، فالمأموم لا إعادة عليه‏.‏ بالاتفاق، مع صحة صلاته، وأما الإمام أو غيره إذا صلى بالتيمم لخشية البرد، فقيل‏:‏ يعيد مطلقًا، كقول الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في الحضر فقط، دون السفر‏.‏ كقول له، ورواية عن أحمد، وقيل‏:‏ لا يعيد مطلقًا كقول مالك، وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏ وهذا هو الصحيح؛ لأنه فعل ما قدر عليه، فلا إعادة عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بإعادة، ولم يثبت فيه دليل شرعي يفرق بين الأعذار المعتادة، وغير المعتادة‏.‏ واللّه أعلم‏.
وَسُئِلَ عن رجل أصابته جنابة، ولم يقدر على استعمال الماء من شدة البرد، أو الخوف والإنكار عليه، فهل إذا تيمم وصلى وقرأ ومس المصحف وتهجد بالليل إمامًا يجوز له ذلك أم لا‏؟‏ وهل يعيد الصلاة أم لا‏؟‏ وإلى كم يجوز له التيمم‏؟‏
فأجاب‏:‏
إذا كان خائفًا من البرد - إن اغتسل بالماء يمرض، أو كان خائفًا إن اغتسل أن يرمى بما هو برىء منه، ويتضرر بذلك أو كان خائفًا بينه وبين الماء عدو أو سبع يخاف ضرره إن قصد الماء فإنه يتيمم ويصلي من الجنابة والحدث الأصغر‏.‏
وأما الإعادة‏:‏ فقد تنازع العلماء في التيمم لخشية البرد، هل يعيد في السفر والحضر‏؟‏ أو لا يعيد فيهما‏؟‏ أو يعيد في الحضر فقط‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏ والأشبه بالكتاب والسنة أنه لا إعادة عليه بحال‏.‏ ومن جازت له الصلاة جازت له القراءة، ومس المصحف‏.‏ والمتيمم يؤم المغتسل عند جمهور العلماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة إلا محمد بن الحسن‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن التيمم إذا كان في يده جراحة، وتوضأ وغسل وجهه، فهل يلزمه أن يتيمم عند غسل اليدين‏؟‏ أم يكمل وضوءه إلى آخره‏؟‏ ثم بعد ذلك يتيمم‏؟‏ وإن كانت الجراحة مشدودة‏:‏ فهل يلزمه أن يحل الجراح‏.‏ ويغسل جميع الصحيح‏؟‏ أم يغسل ما ظهر منها، ويترك الشد على حاله‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للّه، هذه المسألة فيها نزاع، هما قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏ والصحيح أن له أن يؤخر التيمم حتى يفرغ من وضوئه، بل هذا الذي ينبغى أن يفعله إذا قيل‏:‏ إنه يجمع بين الوضوء والتيمم، فإن مذهب أبي حنيفة ومالك‏:‏ أنه لا يحتاج إلى تيمم‏.‏ ولكن مذهب الشافعي وأحمد‏:‏ أن يجمع بينهما - وإذا جبرها مسح عليها، سواء كان جبرها على وضوء أو غير وضوء‏.‏
وكذلك إذا شد عليها عصابة، ولا يحتاج إلى تيمم في ذلك، هذا أصح أقوال العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل عن رجل جنب، وهو في بيت مبلط عادم فيه التراب، مغلوق عليه الباب، ولم يعلم متى يكون الخروج منه، فهل يترك الصلاة إلى وجود الماء والتراب أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
إذا لم يقدر على استعمال الماء، ولا على المسح بالصعيد، فإنه يصلي بلا ماء، ولا تيمم عند الجمهور‏.‏ وهذا أصح القولين‏.‏ وهل عليه الإعادة‏؟‏ على قولين‏:‏
أظهرهما‏:‏ أنه لا إعادة عليه، فإن اللّه يقول‏:‏ ‏{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ ولم يأمر العبد بصلاتين، وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل عن رجل نام وهو جنب فلم يستيقظ إلا قُرَيْبَ طلوع الشمس، وخشى من الغسل بالماء البارد في وقت البرد، وإن سخن الماء خرج الوقت، فهل يجوز له أن يُفَوِّت الصلاة إلى حيث يغتسل، أو يتيمم ويصلي‏؟‏
فأجاب‏:‏
هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فالأكثر‏:‏ كأبي حنيفة والشافعي وأحمد يأمرونه بطلب الماء، وإن صلى بعد طلوع الشمس‏.‏ ومالك يأمره أن يصلي للوقت بالتيمم؛ لأن الوقت مقدم على غيره من واجبات الصلاة، بدليل أنه إن استيقظ في الوقت وعلم أنه لا يجد الماء إلا بعد الوقت، فإنه يصلي بالتيمم في الوقت بإجماع المسلمين، ولا يصلي بعد خروج الوقت بالغسل‏.‏
وأما الأولون، فيفرقون بين هذه الصورة ونظائرها، وبين صورة السؤال، بأنه قال‏:‏ إنما خوطب بالصلاة عند استيقاظه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏)‏ وإذا كان إنما أمر بها بعد الانتباه فعليه فِعْلها بحسب ما يمكن من الاغتسال المعتاد، فيكون فعلها بعد طلوع الشمس فعلا في الوقت الذي أمر اللّه بالصلاة فيه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل عن رجل أجنب واستيقظ، وقد طلع الفجر، ثم أراد أن يغتسل فخاف أن تطلع الشمس فتوضأ وصلى، وبعد الصلاة اغتسل، فهل تجزئ الصلاة أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
إذا أدركته الجنابة فعليه أن يغتسل ويصلي في الوقت، وليس له أن يؤخر الغسل، فإن كان لم يستيقظ إلا وقت طلوع الشمس، فأكثر العلماء يقولون‏:‏ يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس ولا يصلي جنبًا، وبعضهم قال‏:‏ يصلي في الوقت بالوضوء، والتيمم‏.‏ لكن الأول أصح‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل عن الجنب إذا انتبه من نومه وهو في الحضر قبل خروج الوقت بقليل، هل يتيمم ويصلي في الوقت‏؟‏ أو يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت‏؟‏
فأجاب ـ رحمه اللّه‏:‏
يغتسل ولا يصلي بالتيمم في مثل هذه الصورة، عند أكثر العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل شيخ الإسلام إذا دخل وقت الصلاة وهو جنب ويخشى إن اشتغل بفعل الطهارة يفوته الوقت، فهل يباح له التيمم، أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
إذا دخل وقت الصلاة وهو مستيقظ والماء بعيد منه يخاف إن طلبه أن تفوته الصلاة، أو كان الوقت باردًا يخاف إن سخنه أو ذهب إلى الحمام فاتت الصلاة، فإنه يصلي بالتيمم في مذهب أحمد، وجمهور العلماء‏.‏
وإن استيقظ آخر الوقت وخاف إن تطهر طلعت الشمس، فإنه يصلي هنا بالوضوء بعد طلوع الشمس، فإن عند جمهور العلماء اختلافًا‏.‏ كإحدى الروايتين عن مالك، فإنه هنا إنما خوطب بالصلاة بعد استيقاظه‏.‏ ومن نام عن صلاة صلاها إذا استيقظ، وكان ذلك وقتها في حقه‏.‏
وَسئل عن أقوام خرجوا من قرية إلى قرية ليصلوا الجمعة فيها، فوجدوا الصلاة قد أقيمت، وبعضهم على غير وضوء، لو ذهب ليتوضأ فاتته الصلاة، فهل يتيمم‏؟‏
فأجاب‏:‏
هذه المسألة فيها نزاع، والأظهر‏:‏ أنهم إذا لم تمكنهم صلاة الجمعة إلا بالتيمم صلوا بالتيمم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وَسئل عن المسافر يصل إلى ماء، وقد ضاق الوقت، فإن تشاغل بتحصيله خرج الوقت، فهل له أن يصلي بالتيمم‏؟‏
فأجاب‏:‏
أما المسافر إذا وصل إلى ماء وقد ضاق الوقت، فإنه يصلي بالتيمم على قول جمهور العلماء، وكذلك لو كان هناك بئر لكن لا يمكن أن يصنع له حبلاً حتى يخرج الوقت، أو يمكن حفر الماء، ولا يحفر حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي بالتيمم‏.‏
وقد قال بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ أنه يغتسل ويصلي بعد خروج الوقت، لاشتغاله بتحصيل الشرط، وهذا ضعيف لأن المسلم أمر أن يصلي في الوقت بحسب الإماكن، فالمسافر إذا علم أنه لا يجد الماء حتى يفوت الوقت كان فرضًا عليه أن يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق الأئمة، وليس له أن يؤخر الصلاة حتى يصل إلى الماء، وقد ضاق الوقت بحيث لا يمكنه الاغتسال والصلاة حتى يخرج الوقت‏.‏
بل إذا فعل ذلك كان عاصيًا بالاتفاق، وحينئذ، فإذا وصل إلى الماء وقد ضاق الوقت، فغرضه إنما هو الصلاة بالتيمم في الوقت، وليس هو مأمورًا بهذا الاستعمال الذي يفوته معه الوقت، بخلاف المستيقظ آخر الوقت، والماء حاضر فإن هذا مأمور أن يغتسل ويصلي، ووقته من حين يستيقظ، لا من حين طلوع الفجر، بخلاف من كان يقظانا عند طلوع الفجر، أو عند زوالها، إما مقيما وإما مسافرًا، فإن الوقت في حقه من حينئذ‏.‏
وَسئل عن التيمم‏:‏ هل يجوز لأحد أن يصلي به السنن الراتبة والفريضة وأن يقتصر عليه إلى أن يحدث أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
نعم يجوز له في أظهر قولى العلماء أن يصلي بالتيمم، كما يصلي بالوضوء، فيصلي به الفرض والنفل، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا ينقض التيمم إلا ما ينقض الوضوء، والقدرة على استعمال الماء، واللّه أعلم‏.‏
وَسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏ عن الحاقن‏:‏ أيما أفضل‏:‏ يصلي بوضوء محتقنًا، أو أن يحدث، ثم يتيمم لعدم الماء‏؟‏
فأجاب‏:‏
صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان، فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة، منهى عنها‏.‏ وفي صحتها روايتان‏.‏ وأما صلاته بالتيمم، فصحيحة، لا كراهة فيها بالاتفاق‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
رحاب
الاعضـــــاء
الاعضـــــاء
رحاب


عدد المساهمات : 2700
الحمل العمر : 41

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالجمعة 1 يوليو - 12:54

الغالي احمد

تسلم علي اختيارك بارك الله فيك

وجزاك الله الف خير ياغالي

تقبل مروري البسيط
[i][center]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالجمعة 1 يوليو - 13:18

مشكوووووور ليكى ياغاليه على مرورك الطيب

وربى لا يحرمنى منك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
ابن النيل
المراقب العام
المراقب العام
ابن النيل


عدد المساهمات : 3519
السرطان العمر : 37

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالسبت 2 يوليو - 7:38



الغالى احمد المصرى

تسلم على هذا الموضوع القيم

جعله الله فى ميزان حسناتك

بارك الله فيك وجزاك الجنة

تقبل مرورى البسيط

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عااشقة الفردوس
مشــــــرف
عااشقة الفردوس


عدد المساهمات : 813
الثور العمر : 38

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالسبت 2 يوليو - 9:35

بارك الله فيك جزاك الله جزيل الخير

في ميزان حسناتك بإذن الله

تقبل مروري البسيط...تحياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عااشقة الفردوس
مشــــــرف
عااشقة الفردوس


عدد المساهمات : 813
الثور العمر : 38

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالسبت 2 يوليو - 9:41

بارك الله فيك

جزاك الله خيرا

تحياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابواحمد
مشــــــرف
ابواحمد


عدد المساهمات : 1888
السرطان العمر : 49
الموقع : مصرى واعتز ان اكون مصرى

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالسبت 2 يوليو - 16:41

بارك الله فيك وجزاك الله خير تسلم اخي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأحد 3 يوليو - 13:10

مشكووووووووووووووووور ليك ياغالى

ومشكوووو على مرورك وجزاك الله الف خير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالأحد 10 يوليو - 11:24

ابن النيل ومريومه

بارك الله فيكم على مرورك الطيب

واللهم يجعلكم من اهل الجنه

جزاكم الله الف خير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: بَاب إزالة النجاسَة    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 11 أغسطس - 15:22

بَاب إزالة النجاسَة

وأما إزالة النجاسة بغير الماء، ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد‏:‏
أحدها‏:‏ المنع، كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد‏.‏
والثاني‏:‏ الجواز، كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك، وأحمد‏.‏
والقول الثالث‏:‏ في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة، كما في طهارة فم الهرة بريقها، وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم، ونحو ذلك‏.‏
والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء‏:‏ حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء‏)‏‏.‏ وقوله في آنية المجوس‏:‏ ‏(‏ارحضوها ثم اغسلوها بالماء‏)‏‏.‏ وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد‏:‏ ‏(‏صبوا على بوله ذنبوًا من ماء‏)‏ فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء‏.‏
وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع‏:‏
منها‏:‏ الاستجمار بالحجارة‏.‏ ومنها قوله في النعلين‏:‏ ‏(‏ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور‏)‏‏.‏ ومنها قوله في الذيل‏:‏ ‏(‏يطهره مابعده‏)‏‏.‏ ومنها‏:‏ أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم لم يكونوا يغسلون ذلك‏.‏ ومنها قوله في الهر‏:‏ ‏(‏إنها من الطوافين علكيم والطوافات‏)‏ مع أن الهر - في العادة - يأكل الفأر، ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء بل طهورها ريقها‏.‏ ومنها‏:‏ أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين‏.‏
وإذا كان كذلك، فالراجع في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان، زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها‏.‏ لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها‏.‏
والذين قالوا لا تزول إلا بالماء، منهم من قال‏:‏ إن هذا تَعَبُّد وليس الأمر كذلك‏.‏ فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة لتعينه؛ لأن إزالتها بالأشربة التى ينتفع بها المسلمون إفساد لها‏.‏ وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة، كغسل الثوب، والإناء، والأرض بالماء، فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماء ورد وخل وغير ذلك، لم يأمرهم بإفساده فكيف إذا لم يكن عندهم‏.‏
ومنهم من قال‏:‏ إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به، وليس الأمر كذلك‏.‏ بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة، كالماء وأبلغ، والاستحالة له أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء، فإن الإزالة بالماء قد يبقي معها لون النجاسة فيعفي عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يكفيك الماء ولا يضرك أثره‏)‏ وغير الماء يزيد الطعم واللون والريح‏.‏
ومنهم من قال‏:‏ كان القياس ألا يزول بالماء لتنجيسه بالملاقاة، لكن رخص في الماء للحاجة، فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان، فلا يقاس عليها‏.‏ وكلا المقدمتين باطلة‏.‏ فليست إزالتها على خلاف القياس بل القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها‏.‏
وقولهم‏:‏ إنه ينجس بالملاقاة ممنوع، ومن سلمه فرق بين الوارد والمورود عليه، أو بين الجارى والواقف‏.‏ ولو قيل‏:‏ إنها على خلاف القياس فالصواب أن ما خالف القياس يقاس عليه إذا عرفت علته؛ إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق‏.‏
واعتبار طهارة الخبث بطهارة الحدث ضعيف؛ فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها؛ ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل، واشترط فيها النية عند الجمهور‏.‏ وأما طهارة الخبث، فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث؛ ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم‏.‏
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ أنه يعتبر فيها النية، فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق، مع مخالفته لأئمة المذاهب‏.‏ وإنما قيل مثل هذا من ضيق المجال في المناظرة، فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث، فمنعوا الحكم في الأصل، وهذا ليس بشيء‏.‏
ولهذا كان أصح قولي العلماء أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلاً أو ناسيًا، فلا إعادة عليه، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان فيهما، ولم يستأنف الصلاة‏.‏ وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمرهم بغسله ولم يعد الصلاة؛ وذلك لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا، فلا إثم عليه، كما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، قال اللّه تعالى‏:‏‏(‏قد فعلت‏)‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏
ولهذا كان أقوى الأقوال‏:‏ أن ما فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة، كالكلام ناسيًا، والأكل ناسيًا، والطيب ناسيًا، وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهى عنه فحينئذ، إذا زال الخبث بأى طريق كان، حصل المقصود‏.‏ ولكن إن زال بفعل العبد ونيته، أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة، ولم يكن له ثواب، ولم يكن عليه عقاب‏.‏
وَسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏ عن استحالة النجاسة، كرماد السرجين النجس، والزِّبْل النجس تصيبه الريح والشمس، فيستحيل ترابًا‏.‏ فهل تجوز الصلاة عليه أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
وأما استحالة النجاسة‏:‏ كرماد السرجين النجس، والزبل النجس يستحيل ترابًا، فقد تقدمت هذه المسألة‏.‏ وقد ذكرنا أن فيها قولين في مذهب مالك وأحمد‏:‏
أحدهما‏:‏ أن ذلك طاهر، وهو قول أبي حنيفة، وأهل الظاهر وغيرهم‏.‏ وذكرنا أن هذا القول هو الراجح‏.‏
فأما الأرض إذا أصابتها نجاسة، فمن أصحاب الشافعي وأحمد من يقول‏:‏ إنها تطهر، وإن لم يقل بالاستحالة‏.‏ ففي هذه المسألة مع ‏[‏مسألة الاستحالة‏]‏ ثلاثة أقوال، والصواب الطهارة في الجميع، كما تقدم‏.‏
وَقَالَ ـ رحِمهُ اللّه‏:‏
فصل
وأما طين الشوارع فمبني على أصل‏:‏ وهو أن الأرض إذا أصابتها نجاسة ثم ذهبت بالريح أو الشمس أو نحو ذلك، هل تطهر الأرض‏؟‏ على قولين للفقهاء، وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما‏:‏
أحدهما‏:‏ أنها تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وغيره؛ ولكن عند أبي حنيفة‏:‏ يصلي عليها ولا يتيمم بها‏.‏ والصحيح أنه يصلي عليها ويتيمم بها، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏)‏ ومن المعلوم أن النجاسة لو كانت باقية لوجب غسل ذلك‏.‏ وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح من أنه أمرهم أن يصبوا على بول الأعرابي الذي بال في المسجد ذنوبًا من ماء، فإن هذا يحصل به تعجيل تطهير الأرض، وهذا مقصود؛ بخلاف ما إذا لم يصب الماء فإن النجاسة تبقى إلى أن تستحيل‏.‏
وأيضًا، ففي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏)‏ وفي السنن - أيضًا-‏:‏ أنه سُئِل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر ثم على المكان الطاهر فقال‏:‏ ‏(‏يطهره ما بعده‏)‏‏.‏ وقد نص أحمد على الأخذ بهذا الحديث الثاني ونص في إحدى الروايتين عنه على الأخذ بالحديث الأول، وهو قول من يقول به من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما‏.‏ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب يطهر أسفل النعل، وأسفل الذيل،وسماه طهورًا، فلأن يطهر نفسه بطريق الأولى، والأحرى‏.‏ فالنجاسة إذا استحالت في التراب فصارت ترابًا لم يبق نجاسة‏.‏
وأيضًا، فقد تنازع العلماء فيما إذا استحالت حقيقة النجاسة، واتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل اللّه بدون قصد صاحبها، وصارت خلاً، أنها تطهر‏.‏ ولهم فيها إذا قصد التخليل نزاع وتفصيل والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال، كما ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه - لما صح من نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تخليلها، ولأن حبسها معصية، والطهارة نعمة، والمعصية لا تكون سببًا للنعمة‏.‏
وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحًا في الملاحة، أو صارت رمادًا، أو صارت الميتة والدم والصديد ترابًا - كتراب المقبرة - فهذا فيه قولان في مذهب مالك، وأحمد‏:‏
أحدهما‏:‏ أن ذلك طاهر كمذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر‏.‏
والثاني‏:‏ أنه نجس، كمذهب الشافعي‏.‏ والصواب أن ذلك كله طاهر، إذا لم يبق شيء من أثر النجاسة، لا طعمها ولا لونها ولا ريحها؛ لأن اللّه أباح الطيبات، وحرم الخبائث، وذلك يتبع صفات الأعيان وحقائقها‏.‏
فإذا كانت العين ملحًا أو خلا دخلت في الطيبات، التى أباحها اللّه، ولم تدخل في الخبائث التى حرمها اللّه، وكذلك التراب والرماد وغير ذلك لا يدخل في نصوص التحريم‏.‏ وإذا لم تتناولها أدلة التحريم ـ لا لفظًا ولا معنى ـ لم يجز القول بتنجيسه وتحريمه، فيكون طاهرًا‏.‏ وإذا كان هذا في غير التراب، فالتراب أولى بذلك‏.‏
وحينئذ، فطين الشوارع إذا قدر أنه لم يظهر به أثر النجاسة فهو طاهر، وإن تيقن أن النجاسة فيه، فهذا يعفي عن يسيره‏.‏ فإن الصحابة - رضوان اللّه عليهم - كان أحدهم يخوض في الوحل، ثم يدخل المسجد، فيصلي ولا يغسل رجليه، وهذا معروف عن على ابن أبي طالب - رضى اللّه عنه - وغيره من الصحابة كما تقدم‏.‏ وقد حكاه مالك عنهم مطلقًا، وذكر أنه لو كان في الطين عذرة منبثة لعفي عن ذلك، وهكذا قال غيره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه يعفي عن يسير طين الشوارع، مع تيقن نجاسته‏.‏ واللّه أعلم‏.
وسئل ـ رحمه الله ـ عن الخمرة إذا انقلبت خَّلاً ولم يعلم بقلبها، هل له أن يأكلها أو يبيعها‏؟‏ أو إذا علم أنها انقلبت، هل يأكل منها أو يبيعها‏؟‏
فأجاب‏:‏
أما التخليل ففيه نزاع‏.‏ قيل‏:‏ يجوز تخليلها ـ كما يحكى عن أبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز، لكن إذا خللت طهرت‏.‏ كما يحكى عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز بنقلها من الشمس إلى الظل، وكشف الغطاء عنها، ونحو ذلك، دون أن يلقى فيها شيء‏.‏ كما هو وجه في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏
وقيل‏:‏ لا يجوز بحال‏.‏ كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذا هو الصحيح، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سئل عن خمر ليتامى فأمر بإراقتها‏.‏ فقيل له‏:‏ إنهم فقراء، فقال‏:‏ ‏(‏سيغنيهم الله من فضله‏)‏ فلما أمر بإراقتها، ونهي عن تخليلها، وجبت طاعته فيما أمر به، ونهي عنه‏.‏ فيجب أن تراق الخمرة ولا تخلل‏.‏ هذا مع كونهم كانوا يتامى، ومع كون تلك الخمرة كانت متخذة قبل التحريم، فلم يكونوا عصاة‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا منسوخ؛ لأنه كان في أول الإسلام، فأمروا بذلك كما أمروا بكسر الآنية وشق الظروف ليمتنعوا عنها، قيل‏:‏ هذا غلط من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن أمر الله ورسوله، لا ينسخ إلا بأمر الله ورسوله، ولم يرد بعد هذا نص ينسخه‏.‏
الثاني‏:‏ أن الخلفاء الراشدين ـ بعد موته صلى الله عليه وسلم ـ عملوا بهذا‏.‏ كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنـه قـال‏:‏لا تأكلوا خل خمر، إلا خمرًا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشـتري مـن خـل أهل الذمة‏.‏ فهذا عمر ينهى عن خل الخمر التي قصد إفسادها، ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها، ويرخص في اشـتراء خـل الخمـر‏.‏ مـن أهل الكتاب؛ لأنهم لا يفسـدون خمرهم، وإنما يتخلل بغير اختيارهم‏.‏ وفي قول عمر حجة على جميع الأقوال‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله، ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها، فإذا كانوا مع هذا قد نهوا عن تخليلها وأمروا بإراقتها، فمن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك، فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم‏.‏
يبين ذلك أن عمر بن الخطاب غلظ على الناس العقوبة في شرب الخمر، حتى كان ينفي فيها؛ لأن أهل زمانه كانوا أقل اجتنابًا لها من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون زمان ليس فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه‏؟‏‏!‏ لا ريب أن أهله أقل اجتنابًا للمحارم، فكيف تسد الذريعة عن أولئك المتقين، وتفتح لغيرهم، وهم أقل تقوى منهم‏.‏
وأما ما يروى‏:‏ خير خلكم خل خمركم، فهذا الكلام لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نقله عنه فقد أخطأ، ولكن هو كلام صحيح، فإن خل الخمر لا يكون فيها ماء، ولكن المراد به الذي بدأ الله بقلبه‏.‏ وأيضًا، فكل خمر يعمل من العنب بلا ماء فهو مثل خل الخمر‏.‏
وقد وصف العلماء عمل الخل‏:‏ أنه يوضع أولاً في العنب شيء يحمضه حتى لا يستحيل أولاً خمرًا‏.‏ ولهذا تنازعوا في خمرة الخلال‏:‏ هل يجب إراقتها‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره‏:‏ أظهرهما وجوب إراقتها، كغيرها؛ فإنه ليس في الشريعة خمرة محترمة، ولو كان لشيء من الخمر حرمة، لكانت لخمر اليتامى، التي اشتريت لهم قبل التحريم، وذلك أن الله أمر باجتناب الخمر، فلا يجوز اقتناؤها، ولا يكون في بيت مسلم خمر أصلاً‏.‏ وإنما وقعت الشبهة في التخليل؛ لأن بعض العلماء اعتقد أن التخليل إصلاح لها، كدباغ الجلد النجس‏.‏
وبعضهم قال‏:‏ اقتناؤها لا يجوز؛ لا لتخليل، ولا غيره‏.‏ لكن إذا صارت خلا فكيف تكون نجسة‏؟‏‏!‏ وبعضهم قال‏:‏ إذا ألقى فيها شيء تنجس أولاً، ثم تنجست به ثانيًا، بخلاف ما إذا لم يلق فيها شيء فإنه لا يوجب التنجيس‏.‏
وأما أهل القول الراجح فقالوا‏:‏ قصد المخلل لتخليلها هو الموجب لتنجيسها، فإنه قد نهي عن اقتنائها، وأمر بإراقتها، فإذا قصد التخليل، كان قد فعل محرمًا‏.‏ وغاية ما يكون تخليلها كتذكية الحيوان، والعين إذا كانت محرمة، لم تصر محللة بالفعل المنهي عنه؛ لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة والرحمة‏.‏
ولهذا لما كان الحيوان محرمًا قبل التذكية، ولا يباح إلا بالتذكية فلو ذكاه تذكية محرمة مثل أن يذكيه في غير الحلق واللبة مع قدرته عليه‏.‏ أو لا يقصد ذكاته، أو يأمر وثنيًا أو مجوسيًا بتذكيته، ونحو ذلك لم يبح‏.‏ وكذلك الصيد إذا قتله المحِرْم لم يصر ذكيًا، فالعين الواحدة تكون طاهرة حلالاً في حال، وتكون حرامًا نجسة في حال‏.‏ تارة باعتبار الفاعل‏:‏ كالفرق بين الكتابي والوثني، وتارة باعتبار الفعل كالفرق بين الذبيحة بالمحدد وغيره‏.‏ وتارة باعتبار المحل وغيره كالفرق بين العنق وغيره‏.‏ وتارة باعتبار قصد الفاعل كالفرق بين ما قصد تذكيته وما قصد قتله‏.‏ حتى إنه عند مالك والشافعي وأحمد إذا ذكى الحلال صيدًا أبيح للحـلال دون المحرم، فيكون حلالاً طاهرًا في حق هذا حرامًا نجسًا في حق هذا، وانقلاب الخمر إلى الخل من هذا النوع مثل ما كان ذلك محظورًا، فإذا قصده الإنسان لم يصر الخل به حـلالاً، ولا طاهرًا، كما لم يصر لحم الحيوان حلالاً طاهرًا بتذكية غير شرعية‏.‏
وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب هو الذي يعتمد عليه في هذه المسألة، أنه متى علم أن صاحبها قد قصد تخليلها لم تشتر منه، وإذا لم يعلم ذلك، جاز اشتراؤها منه؛ لأن العادة أن صاحب الخمر لا يرضى أن يخللها‏.‏ والله أعلم‏.‏
وسئل عن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها، وماتت فيه‏.‏ هل ينجس أم لا‏؟‏ وإذا قيل ينجس‏:‏ فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا‏؟‏ وإذا قيل تجوز المكاثرة‏:‏ هل يجوز القاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق‏؟‏ وإذا لم تجز المكاثرة وقيل بنجاسته هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا‏؟‏ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله‏.‏ أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة‏:‏ فهل تنجس وإن كانت كثيرة فوق القلتين‏؟‏ أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقًا إلا بالتغير‏؟‏ أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين‏.‏ فيه عن أحمد ثلاث روايات‏:‏
إحداهن‏:‏ أنها تنجس ـ ولو مع الكثرة‏.‏ وهو قول الشافعي وغيره‏.‏
والثانية‏:‏ أنهـا كالماء‏.‏ سواء كانت مائية أو غير مائية، وهو قول طائفة من السلف والخلف ـ كابن مسعود، وابن عباس والزهري، وأبي ثور، وغيرهم‏.‏ وهو قول أبي ثور نقله المروذي عن أبي ثور، ويحكى ذلك لأحمد فقال‏:‏ إن أبا ثور شبهه بالماء، ذكر ذلك الخَّلال في جامعه عن المروذي‏.‏ وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف فيه‏.‏ فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لم تنجس، كالماء عندهم‏.‏ وأما أبوثور فإنه يقول‏:‏ بالعكس‏.‏ بالقلتين كالشافعي‏.‏ والقول أنها كالماء‏:‏ يذْكر قولاً في مذهب مالك، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين‏.‏ وروى عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة‏:‏ إن ذلك لا يضر الزيت، قال‏:‏ وليس الزيت كالماء‏.‏ وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة، ولم تغير أوصافه، وكان كثيرًا لم ينجس، بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه، ووقوعها فيه‏.‏ ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن، إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون‏:‏ إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل‏.‏
والثالثة‏:‏ يفرق بين المائع المائي‏.‏ كخل الخمر، وغير المائى كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني‏.‏
وفي الجملة، للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ أنها كالماء‏.‏
والثاني‏:‏ أنها أولى بعدم التنجس من الماء؛ لأنها طعام وإدام، فإتلافها فيه فساد، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء، أو مباينة لها من الماء‏.‏
والثالث‏:‏ أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور‏.‏ وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال‏:‏ بالتنجيس، وأنهم احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كان جامـدًا فألقوها ومـا حـولها، وكلوا سـمنكم‏.‏ وإن كـان مـائعًا فـلا تقربـوه‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره، وبينَّا ضعف هذا الحديث‏.‏ وطعن البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه، وأنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري‏.‏
قال أبو داود‏:‏ ‏[‏باب في الفأرة تقع في السمن‏]‏ حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ثنا أحمد بن صالح والحسين بن على ـ واللفظ للحسين ـ قالا‏:‏ ثنا عبد الرزاق قال‏:‏ أنبأنا معمر عن الزهري عن سـعيد بن المسـيب عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها‏.‏ وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏ قال الحسن‏:‏ قال عبد الرزاق‏:‏ ربما حدَّث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال أبو داود‏:‏ قال أحمد بن صالح‏:‏ قال عبد الرزاق‏:‏ قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن مردويه، عن معمر، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزهري عن سعيد بن المسيب‏.‏ وقال أبو عيسى الترمذي في جامعة‏:‏
‏[‏باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن‏]‏
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار قالا‏:‏ حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فسئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقد روى هذا الحديث عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ولم يذكروا فيه عن ميمونة‏.‏ وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح‏.‏
وروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وهو حديث غير محفوظ‏.‏ قال‏:‏ سمعت محمد بن إسماعيل يقول‏:‏حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا خطأ‏.‏ قال‏:‏ والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة‏.‏
قلت‏:‏ وحديث معمر هذا الذي خطأه البخاري، وقال الترمذي إنه غير محفوظ، هو الذي قال فيه‏:‏ إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقـربـوه‏.‏ كما رواه أبـو داود وغيره‏.‏ وكذلك الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ في مسنده وغيره، وقد ذكر عبد الرزاق أن معمرًا كان يرويه أحيانًا من الوجه الآخر، فكان يضطرب في إسناده‏.‏ كما اضطرب في متنه، وخالف فيه الحفاظ الثقات الذين رووه بغير اللفظ الذي رواه معمر‏.‏ ومعمر كان معروفًا بالغلط، وأما الزهري فلا يعرف منه غلط، فلهذا بين البخاري من كلام الزهري ما دل على خطأ معمر في هذا الحديث‏.‏ قال البخاري في صحيحه‏:‏
‏[‏باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب‏]‏
ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة‏:‏ أن فأرة وقعت في سمن فماتت فَسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها، وكلوه‏)‏ قيل لسفيان‏:‏ فإن معمرًا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال‏:‏ ما سمعت الزهري يقوله إلا عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعته منه مرارًا‏.‏
ثنا عبدان، ثنا عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ عن يونس، عن الزهري أنه سئل عن الدابة تموت في الزيت أو السمن وهو جامدًا أو غير جامد ـ الفأرة أو غيرها ـ قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل من حديث عبيد الله بن عبد الله ثم رواه من طريق مالك، كما رواه من طريق ابن عيينة‏.‏
وهذا الحديث رواه الناس عن الزهري، كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه‏.‏ وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب عن أبي هريرة‏.‏ وقال فيه‏:‏ وإن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏.‏ وقيل عنه‏:‏ وإن كان مائعًا فاستصبحوا به، واضطرب على معمر فيه، وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ فعملوا به، وممن يثبته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري‏.‏ وكذلك احتج به أحمد لما افتى بالفرق بين الجامد والمائع، وكان أحمد يحتج أحيانًا بأحاديث ثم يتبين له أنها معلولة، كاحتجاجه بقوله‏:‏ ‏(‏لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين‏)‏ ثم تبين له بعد ذلك أنه معلول فاستدل بغيره‏.‏
وأما البخاري والترمذي وغيرهما، فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه، والصواب معهم‏.‏ فذكر البخاري هنا عن عبد الله بن عتبة‏:‏ أنه قال‏:‏ سمعته من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏ وكذلك رواه مالك وغيره وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره، فأفتى بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث الفرق بينهما، وهو يحتج على استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى‏؟‏‏!‏
والزهري أحفظ أهل زمانه حتى يقال‏:‏ إنه لا يعرف له غلط في حديث، ولا نسيان، مع أنه لم يكن في زمانه أكثر حديثًا منه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه حفظ على الأمة تسعين سنة لم يأت بها غيره، وقد كتب عنه سليمان بن عبد الملك كتابًا من حفظه، ثم استعاده منه بعد عام، فلم يخطئ منه حرفًا‏.‏ فلو لم يكن في الحديث إلا نسيان الزهري أو معمر، لكان نسبة النسيان إلى معمر أولى باتفاق أهل العلم بالرجال مع كثرة الدلائل على نسيان معمر‏.‏ وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن معمرًا كثير الغلط على الزهري‏.‏ قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ فيما حدثه به محمد بن جعفر غندر عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته ثماني نسوة‏.‏ فقال أحمد‏:‏ هكذا حدث به معمر بالبصرة، وحدثهم بالبصرة من حفظه، وحدث به باليمن عن الزهري بالاستقامة‏.‏
وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ ما حدث به معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث، وأكثر الرواة الذين رووا هذا الحديث عن معمر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة هم البصريون‏.‏ كعبد الواحد بن زياد، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى الشامي، والاضطراب في المتن ظاهر‏.‏
فإن هذا يقول‏:‏ إن كان ذائبًا أو مائعًا لم يؤكل‏.‏ وهذا يقول‏:‏ وإن كان مائعًا فلا تنتفعوا به، واستصبحوا به‏.‏ وهذا يقول‏:‏ ‏(‏فلا تقربوه‏)‏ وهذا يقول‏:‏ فأمر بها أن تؤخذ وما حولها فتطرح، فأطلق الجواب، ولم يذكر التفصيل‏.‏
وهذا يبين أنه لم يروه من كتاب بلفظ مضبوط، وإنما رواه بحسب ما ظنه من المعنى فغلط، وبتقدير صحة هذا اللفظ وهو قوله‏:‏ ‏(‏وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏ فإنما يدل على نجاسة القليل الذي وقعت فيه النجاسة كالسمن المسؤول عنه، فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق قلتين يقع فيه فأرة، حتى يقال فيه‏:‏ ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، بل السمن الذي يكون عند أهل المدينة في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً فلو صح الحديث لم يدل إلا على نجاسة القليل‏.‏ فإن المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها لا نص صحيح، ولا ضعيف، ولا إجماع، ولا قياس صحيح‏.‏
وعمدة من ينجسه يظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع، سَرَت فيه كله فنجسته‏.‏ وقد عرف فساد هذا، وأنه لم يقل أحد من المسلمين بطرده، فإن طرده يوجب نجاسة البحر، بل الذين قالوا هذا الأصل الفاسد؛ منهم من استثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر، ومنهم من استثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه، ومنهم من استثنى ما فوق القلتين، وعلل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير، وبعضهم بتعذر التطهير، وهذه العلل موجودة في الكثير من الأدهان؛ فإنه قد يكون في الجب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت، ولا يمكنهم صيانته عن الواقع، والدور والحوانيت مملوءة مما لا يمكن صيانته كالسكر وغيره، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جدًا‏.‏
ولهذا لم يرد بتنجيس الكثير أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه‏.‏ واختلف كلام أحمد ـ رحمه الله ـ في تنجيس الكثير‏.‏ وأما القليل فإنه ظن صحة حديث معمر فأخذ به‏.‏ وقد اطلع غيره على العلة القادحة فيه ولو اطلع عليها لم يقل به ولهذا نظائر‏:‏ كان يأخذ بحديث ثم يتبين له ضعفه فيترك الأخذ به، وقد يترك الأخذ به قبل أن تتبين صحته، فإذا تبين له صحته أخذ به، وهذه طريقة أهل العلم والدين ـ رضي الله عنهم‏.‏
ولظنه صحته، عَدَل إليه عما رآه من آثار الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ فروى صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه أحمد بن حنبل‏:‏ ثنا أبي، ثنا إسماعيل، ثنا عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة‏:‏ أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال‏:‏ تؤخذ الفأرة وما حولها‏.‏ قلت‏:‏ يا مولانا فإن أثرها كان في السمن كله، قال‏:‏ عضضت بهن أبيك، إنما كان أثرها بالسمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت‏.‏ ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا النضر بن عربى، عن عكرمة، قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فسأله عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ فقال ابن عباس‏:‏ خذه وما حوله فألقه، وله‏:‏ قلت‏:‏ أليس جال في الجر كله‏؟‏ قال‏:‏ إنه جال وفيه الروح، فاستقر حيث مات‏.‏ وروى الخلال عن صالح قال‏:‏ ثنا أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن حمران بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، قال‏:‏ سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن‏؟‏ فقال‏:‏ إنما حرم من الميتة لحمها ودمها‏.‏
قلت‏:‏ فهذه فتاوى ابن عباس وابن مسعود والزهري، مع أن ابن عباس هو راوي حديث ميمونة، ثم إن قول معمر في الحديث الضعيف فلا تقربوه متروك عند عامة السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة، فإن جمهورهم يجوزون الاستصباح به، وكثير منهم يجوز بيعه، أو تطهيره، وهذا مخالف لقوله‏:‏ ‏(‏فلا تقربوه‏)‏‏.‏
ومن نصر هذا القول، يقول قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء طَهور لا ينجسه شيء‏)‏ احتراز عن الثوب والبدن والإناء، ونحو ذلك مما يتنجس، والمفهوم لا عموم له، وذلك لا يقتضي أن كل ما ليس بماء يتنجس، فإن الهواء ونحوه لا يتنجس، وليس بماء، كما أن قوله‏:‏ ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏ احتراز عن البدن فإنه يجنب، ولا يقتضي ذلك أن كل ما ليس بماء يجنب؛ ولكن خص الماء بالذكر في الموضعين للحاجة إلى بيان حكمه، فإن بعض أزواجه اغتسلت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ بسؤرها فأخبرته أنها كانت جنبًا، فقال‏:‏ ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏ مع أن الثوب لا يجنب والأرض لا تجنب، وتخصيص الماء بالذكر لمفارقة البدن، لا لمفارقة كل شيء، وكذلك قالوا له‏:‏ أنتوضأ من بئر بُضَاعَة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏، فنفي عنه النجاسة للحاجة إلى بيان ذلك، كما نفي عنه الجنابة للحاجة إلى بيان ذلك‏.‏ والله ـ سبحانه ـ قد أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، والنجاسات من الخبائث، فالماء إذا تغير بالنجاسة، حرم استعماله؛ لأن ذلك استعمال للخبيث‏.‏
وهذا مبني على أصل‏:‏ وهو أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة، فهل مقتضى القياس تنجسه لاختلاط الحلال بالحرام إلى حيث يقوم الدليل على تطهيره، أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر فيه النجاسة الخبيثة التي يحرم استعمالها للفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في هذا الأصل قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ قول من يقول‏:‏ الأصل النجاسة، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي، وأحمد، بناء على أن اختلاط الحلال بالحرام يوجب تحريمهما جميعًا‏.‏
ثم إن أصحاب أبي حنيفـة طردوا ذلك فيما إذا كان الماء يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطـرف الآخر‏.‏ قالوا‏:‏ لأن النجاسة تبلغه، إذا بلغته الحركة، ولم يمكنهم طرده فيما زاد على ذلك، وإلا لزم تنجيس البحـر، والبحر لا ينجسـه شيء بالنص والإجماع، ولم يطـردوا ذلك فيما إذا كان الماء عمـيقًا ومساحتـه قليلـة، ثم إذا تنجـس الماء‏:‏ فالقياس عنـدهم يقتضى ألا يطهر بنزح، فيجب طم الآبار المتنجسة، وطرد هذا القياس بِشر المريسي‏.‏
وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا‏:‏ بالتطهير بالنزح استحسانًا، إما بنزح البئر كلها إذا كبر الحيوان، أو تفسخ، وإما بنزح بعضها إذا صغر بدلاء ذكروا عددها، فما أمكن طرد ذلك القياس‏.‏
وكذلك أصحاب الشافعي وأحمد قالوا‏:‏ بطهارة ما فوق القلتين؛ لأن ذلك يكون في الفلوات والغدران التي لا يمكن صيانتها عن النجاسة فجعلوا طهارة ذلك رخصة لأجل الحاجة على خلاف القياس، وكذلك من قال من أصحاب أحمد‏:‏ إن البول والعذرة الرطبة لا ينجس بهما إلا ما أمكن نزحه، ترك طرد القياس؛ لأن ما يتعذر نزحه يتعذر تطهيره، فجعل تعذر التطهير مانعًا من التنجس‏.‏
فهذه الأقوال وغيرها من مقالات القائلين بهذا الأصل، تبين أنه لم يطرده أحد من الفقهاء، وأن كلهم خالفوا فيه القياس رخصة، وأباحوا ما تخالطه النجاسات من المياه لأجل الحاجة الخاصة‏.‏
وأما القول الثاني‏:‏ فهو قول من يقول‏:‏ القياس ألا ينجس الماء حتى يتغير، كما قاله من قاله من فقهاء الحجاز والعراق، وفقهاء الحديث، وغيرهم كمالك وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم، مع قوله‏:‏ إن القليل ينجس بالملاقاة، وأما ابن عقيل وابن المنى وابن المظفر وابن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحاب أحمد، فنصروا هذا ـ أنه لا ينجس إلا بالتغير ـ كالرواية الموافقة لأهل المدينة، وهو قول أبي المحاسن الروياني، وغيره من أصحاب الشافعي‏.‏
وقال الغزالي‏:‏ وددت أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك، وكلام أحمد وغيره موافق لهذا القول، فإنه لما سئل عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت طعمه أو لونه بأى شيء ينجس‏؟‏ والحديث المروي في ذلك وهو قوله‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه‏)‏، ضعيف‏؟‏ فأجاب‏:‏ بأن الله حرم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فإذا ظهر في الماء طعم الدم أو الميتة، أو لحم الخنزير، كان المستعمل لذلك مستعملاً لهذه الخبائث‏.‏ ولو كان القياس عنده التحريم مطلقًا، لم يخص صورة التحريم باستعمال النجاسة‏.‏
وفي الجملة، فهذا القول هو الصواب، وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير، ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت، لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير أصلاً‏.‏ كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربًا للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلا كانت طاهرة باتفاق العلماء‏.‏ وهذا على قول من يقول‏:‏ إن النجاسة إذا استحالت، طهرت أقوى‏.‏ كما هو مذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد‏.‏ فإن انقلاب النجاسة ملحًا ورمادًا ونحو ذلك، هو كانقلابها ماء، فلا فرق بين أن تستحيل رمادًا أو ملحًا أو ترابًا أو ماء أو هواء، ونحو ذلك، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات‏.‏
وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة وغيرها من الطيبات والخبيثة، قد استهلكت واستحالت فيها، فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله تعالى، ومن الذي قال‏:‏ إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه واستحال قد حرم، وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس‏؟‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث بئر بُضاعة لما ذكر له أنها يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال‏:‏ ‏(‏الماء طَهور لا ينجسه شيء‏)‏ وقال في حديث القلتين‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏‏.‏ وفي اللفظ الآخر‏:‏ ‏(‏لم ينجسه شيء‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏
فقوله‏:‏ ‏(‏لم يحمل الخبث‏)‏ بين أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أى بأن يكون الخبث فيه محمولاً، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء‏.‏
فصـــل
وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة المطربة فإذا زالت بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح‏.‏ كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ لا تأكلوا خل خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها ولا جناح على مسلم أن يشترى خل خمر من أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها‏.‏
وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرمًا، والفعل المحرم لا يكون سببًا للحل، والإباحة‏.‏ وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرًا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة‏.‏
وأما سائر النجاسات، فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأن إفسادها ليس بمحرم‏.‏ كما لا يحد شاربها؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا ـ أيضًا ـ إحالة النجاسة بالنار وغيرها، والماء لنجاسته سببان‏:‏
أحدهما‏:‏ متفق عليه، والآخر‏:‏ مختلف فيه‏.‏
فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرًا، كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرًا‏.‏
والثاني‏:‏ القلة‏:‏ فإذا كان الماء قليلاً ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء‏:‏ فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثنى البول والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجسًا بوقوع ذلك فيه‏.‏ ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة أنه لا ينجس، ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض الشافعية كإحدى الروايات، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي كما نصر الأولى طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا‏:‏ إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين ـ وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول ـ فهؤلاء لا ينجسون شيئًا إلا بالتغير‏.‏ ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره‏.‏ فهؤلاء لا ينجسون شيئًا من المائعات إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء‏.‏
وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول‏:‏ إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرًا، إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين فصار الجميع كثيرًا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد‏:‏
أحدهما‏:‏ ـ وهو مذهب الشافعي في الماء ـ‏:‏ أن الجميع طاهر‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ أنه لا يكون طاهرًا حتى يكون المضاف كثيرًا‏.‏ والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر ـ أيضًا ـ وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرًا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة ـ وكان الجميع كثيرًا فوق القلتين ـ كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان‏.‏
وهذا القول الذي ذكرناه من أن المائعات كالماء أولى بعدم التنجيس من الماء هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة؛ ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل كما جاء في الحديث ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفي على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعًا للحرج‏.‏ فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة‏؟‏ والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة‏.‏
فإن قيل‏:‏ الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى، بخلاف المائعات‏.‏
قيل‏:‏ الجواب عن ذلك من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل، وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهرًا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن نفسه؛ ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه‏.‏ ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل، وتلك نجسة قبل طهارة المحل‏.‏ وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه‏:‏ هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة‏؟‏
وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال‏:‏ الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا‏.‏ فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏)‏، فإنه إذا كان طهورًا يطهر به غيره علم أنه لا ينجس بالملاقاة؛ إذ لو نجس بها، لكان إذا صب عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه‏:‏ لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت، زالت‏.‏
فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل‏.‏ فإن من قال‏:‏ إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره، فقد خالف المشاهدة‏.‏ وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ غاية هذا أن يقتضى أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره‏.‏ وأحمد جعله لازمًا لمن قال‏:‏ أن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وقال‏:‏ يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول ـ وهذا هو القياس ـ فنقول به على هذا التقدير‏.‏ وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال‏:‏ أنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير ـ إما مطلقًا، وإما مع الكثرة ـ فكذلك الصواب في المائعات‏.‏
وفي الجملة، التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات ـ الماء وغير الماء‏.‏
ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعانى الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال‏.‏ فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول، وموجب القياس‏.‏

تابع ان شاء الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: تابع بَاب إزالة النجاسَة    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 11 أغسطس - 15:23


ومن كان فقيهًا خبيرًا بمآخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى، تبين له ذلك‏.‏ ولكن إذا كان في استعمالها فساد، فإنه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها‏.‏ ونحوذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه، فنفدت أزوادهم فاستأذنوه في نحر الظهر فأذن لهم، ثم أتى عمر فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقى الظهر، ففعل ذلك‏)‏ فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب؛ لا لأن الإبل محرمة‏.‏ فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها‏.‏ فالقول في المائعات كالقول في الجامدات‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء‏.‏ وتغير الماء بالنجاسات، أسرع من تغير المائعات‏.‏ فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته، فالمائعات أولى وأحرى‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح، فلا نسلم أن يقال بنجاسته أصلاً، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ‏.‏ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة‏.‏ فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره؛ فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض‏؟‏ على قولين‏:‏
أحدهما‏:‏ تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل، فإنه ثبت عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏كانت الكلاب تقبل وتدبر، وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك‏)‏‏.‏ وفي السنن أنه قال‏:‏ إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب فإن التراب لهما طهور‏)‏‏.‏ وكان الصحابة ـ كعلى بن أبي طالب وغيره ـ يخوضون في الوحل ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم‏.‏
وأوكد من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء، إذا أصابت أرضاً طاهرة بعد أرض خبيثة‏:‏ ‏(‏تلك بتلك‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يطهره ما بعده‏)‏ وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد غيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف، ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها، لأجل الحاجة‏.‏ كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد، علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء‏.‏
وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة، فالمائعات أولى وأحرى؛ لأن إحالتها أشد وأسرع‏.‏ ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا‏.‏
وأما من قال‏:‏ إن الدهن ينجس بما يقع فيه، ففي جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأظهرهما جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة، وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏
أحدهما‏:‏ يطهر بالغسل كما اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم‏.‏ وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره‏.‏
والثاني‏:‏ لا يطهر بالغسل ـ وعليه أكثرهم ـ وهذا النزاع يجرى في الدهن المتغير بالنجاسة، فإنه نجس بلا ريب‏.‏ ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع‏.‏ وكذلك في غسله هذا النزاع‏.‏
وأما بيعه، فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا من كافر‏.‏ وهو المشهور في مذهب الشافعي وغيره‏.‏ وعن أحمد أنه يجوز بيعه من كافر، إذا أعلم بنجاسته‏.‏ كما روى عن أبي موسى الأشعري، وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب وغيره وهو ضعيف؛ لأن أحمد وغيره من الأئمة فرقوا بينهما‏.‏
ومنهم من خرَّج جواز بيعه على جواز تطهيره؛ لأنه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس، والإناء النجس وذلك يجوز بيعه وفاقًا‏.‏ وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه إذا قالوا‏:‏ بجواز تطهيره، وجهان، ومنهم من قال‏:‏ يجوز بيعه مطلقًا‏.‏ والله أعلم‏.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏
فصـــل
وأما المائعات ـ كالزيت والسمن، وغيرهما من الأدهان كالخل واللبن وغيرهما ـ إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة، ونحوها من النجاسات، ففي ذلك قولان للعلماء‏:‏
أحدهما‏:‏ أن حكم ذلك حكم الماء، وهذا قول الزهري وغيره من السلف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويذكر رواية عن مالك في بعض المواضع، وهذا هو أصل قول أبي حنيفة، حيث قاس الماء على المائعات‏.‏
والثاني‏:‏ أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء، فإنه يفرق بين قليله وكثيره‏.‏ وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد‏.‏
وفيها قول ثالث‏:‏ هو رواية عن أحمد، وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها فخل التمر يلحق بالماء، وخل العنب لا يلحق به‏.‏
وعلى القول الأول، إذا كان الزيت كثيرًا مثل أن يكون قلتين، فإنه لا ينجس إلا بالتغير كما نص على ذلك أحمد في كلب ولغ في زيت كثير‏.‏ فقال‏:‏ لا ينجس‏.‏ وإن كان المائع قليلاً، انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل‏.‏ فمن قال‏:‏ أن القليل لا ينجس إلا بالتغير، قال‏:‏ ذلك في الزيت وغيره، وبذلك أفتى الزهري ـ لما سئل عن الفأرة أو غيرها من الدواب‏.‏ تموت في سمن أو غيره من الأدهان ـ فقال‏:‏ تلقى وما قرب منها ويؤكل، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، وسواء كان جامدًا أو مائعًا‏.‏ وقد ذكر ذلك البخاري عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله‏.‏
ومـن قـال‏:‏ أن المائـع القليل ينجس بوقوع النجاسة، قال‏:‏ إنه كالماء، فإنه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة‏.‏ فإذا صب عليه زيت كثير طهر الجميع‏.‏ والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء هـو القـول الراجح، بـل هي أولى بعدم التنجـيس مـن الماء‏.‏ وذلك لأن الله أحل لنا الطيبات، وحـرم علينا الخبائث، والأطعمـة والأشـربة ـ من الأدهـان والألبان والزيت والخلول‏.‏ والأطعمة المائعة ـ هي مـن الطيبات التي أحلها الله لنا، فـإذا لم يظهر فيها صفة الخبث ـ لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، ولا شيء مـن أجزائه ـ كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبيث المحرمـة مع أن صفاتها صفات الطيب لا صفات الخبائث، فإن الفرق بين الطيبات والخبائث بالصفات المميزة بينهما‏.‏
ولأجل تلك الصفات حرم هذا، وأحل هذا‏.‏ وإذا كان هذا الجب وقع فيه قطرة دم أو قطرة خمر ـ وقد استحالت واللبن باق على صفته، والزيت باق على صفته ـ لم يكن لتحريم ذلك وجه‏.‏ فإن تلك قد استهلكت واستحالت، ولم يبق لها حقيقة من الأحكام يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر‏.‏ وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء لأن الشارع رخص في إراقة الماء وإتلافه حيث لم يرخص في إتلاف المائعات كالاستنجاء، فإنه يستنجي بالماء دون هذه، وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء‏.‏
وأمـا استعمال المائعات في ذلك فـلا يصح ـ سواء قيل‏:‏ تزول النجاسة أو لا تزول ـ ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ إن الماء يراق إذا ولغ فيه الكلب، ولا تراق آنية الطعام والشراب‏.‏
وأيضًا، فإن الماء أسرع تغيرًا بالنجاسة من الملح، والنجاسة أشد استحالة في غير الماء منها في الماء، فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حسًا وشرعًا من الماء، فحيث لا ينجس الماء فالمائعات أولى ألا تنجس‏.‏
وأيضًا، فقـد ثبت في صحيـح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمـن، فقـال‏:‏ ‏(‏ألقـوها ومـا حولها، وكلوا سمنكم‏)‏‏.‏ فأجـابهم النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا عامًـا مطلقًا بأن يلقـوهـا ومـا حـولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعًا أو جـامـدًا‏.‏ وترك الاستفصال في حكايـة الحال مـع قـيام الاحتمال ينـزل منزلـة العمـوم في المقال‏.‏ مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائبًا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه لا يكون إلا ذائبًا‏.‏ والغالب على السمـن أنه لا يبـلغ القلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أو كثيرًا‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد روى في الحديث‏.‏‏.‏ ‏(‏إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقربوه‏)‏‏.‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏
قيل‏:‏ هذه الزيادة هي التي اعتمد عليها من فرق بين المائع والجامد، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم‏.‏ وقد ضعَّف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري، وصحح هذه الزيادة، لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث، ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا ـ ونحن جازمون ـ بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولاً‏.‏ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ والبخاري والترمذي ـ رحمة الله عليهما ـ وغيرهما من أئمة الحديث، قد بينوا لنا أنها باطلة، وأن معمرًا غلط في روايته لها عن الزهري، وكان معمر كثير الغلط، والأثبات من أصحاب الزهري ـ كمالك، ويونس، وابن عيينة ـ خالفوه في ذلك، وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، فجعله عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإنما هو عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة، وروي عنه في بعض طرقه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن كان مائعًا فاستصبحوا به‏)‏ ‏(‏وفي بعضها فلا تقربوه‏)‏‏.‏
والبخاري بين غلطه في هذا، بأن ذكر في صحيحه عن يونس عن الزهري نفسه أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال‏:‏ إن كان جامدًا أو مائعًا قليلاً أو كثيرًا تلقى وما قرب منها ويؤكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم‏)‏ فالزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة وما قرب منها، ويؤكل، واستدل بهذا الحديث كما رواه عنه جمهور أصحابه‏.‏ فتبين أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط‏.‏
وأيضًا، فالجمود والميعان، أمر لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثير من الأطعمة، هل تلحق بالجامد أو المائع‏.‏ والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}‏ ‏[‏التوبة‏:‏115‏]‏‏.‏ والمحرمات مما يتقون، فلابد أن يبين لهم المحرمات بيانًا فاصلاً بينها وبين الحلال‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏‏.‏
وأيضًا، فإذا كانت الخمر التي هي أم الخبائث إذا انقلبت بنفسها حلت باتفاق المسلمين، فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب‏.‏ وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خل مسلم بغير اختياره فاستحالت، كانت أولى بالطهارة‏.‏
فإن قيل‏:‏ الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها، والخمر إذا قصد تخليلها لم تطهر‏.‏
قيل في الجواب عن الأول‏:‏ إن جميع النجاسات نجست بالاستحالة، فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة، ثم تستحيل دمًا وبولاً وغائطًا فتنجس‏.‏
وكذلك الحيوان يكون طاهرًا، فإذا مات احتبست فيه الفضلات، وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس؛ ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور سواء قيل‏:‏ إن الدباغ كالحياة، أو قيل إنه كالذكاة، فإن في ذلك قولين مشهورين للعلماء، والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة‏.‏
وأما ما قصد تخليله، فذلك لأن حبس الخمر حرام، سواء حبست لقصد التخليل أو لا‏.‏ والطهارة نعمة فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم‏.‏
وَسُئِلَ عن الرجل يسافر في الشتاء ويصيبه بلل المطر والنداوة ويمس مقادم الدواب ورحالها وغير ذلك ـ مما يشق الاحتراز منه على المسافر ـ وينزل منازل متنجسة يفرش عليها فرشه وغير ذلك، مما يعلم من أحوال المسافر‏.‏ فهل يعفي عن ذلك‏؟‏ وإذا عفي عنه، فهل إذا حضر في بلدته يجب عليه غسل ما لامس ثيابه وفرشه وفراءه‏؟‏ وهي مرتبطة بتلك المقاود‏.‏ وآلة الدواب لا تخلو من النجاسات، وقد تكون في بعض الأوقات المقاود رطبة من بول أو بلل، ويمسكها بيده، ويلمس بيده ثيابه، وقد تكون في الصيف يده عرقانة‏.‏ فهل يعفي عن جميع ذلك‏؟‏ وإن عفي عنه في السفر هل يكون عفوًا له في الحضر، أم يجب غسل ما ذكر‏؟‏ فإن الكثير من الناس لا يغسلون‏.‏ والأقل من الناس يعتنون بالغسل‏؟‏ وهل كان الصحابة يغسلون من ذلك، أم يتجاوزون‏؟‏ وهل يكون الغسل من ذلك بخلاف السنة‏؟‏ والغرض متابعة الصحابة وما كانوا عليه‏.‏
وفي الرجل، إذا مس ثوبه القصَّاب أو يده وعليه شيء من الدسم غسل ما أصابه منه‏.‏ فهل هو في ذلك مصيب‏؟‏ أو هذا وسواس‏؟‏ وفي الرجل ـ أيضًا ـ يصلي إلى جانبه قصَّاب في المسجد فيقول مكان هذا القصاب غير طاهر؛ لأن القصابين لا يتحرزون من النجاسة في أبدانهم وثيابهم، وإذا صافحه قصَّاب غسل يده‏؟‏ وكذلك إذا مسه الطواف باللحم غسل ما أصابه منه‏.‏ فهل هو مخطئ‏؟‏ وما الحكم في ذلك‏؟‏ وما الذي كانت عليه الصحابة‏؟‏
وفي الرجل يأكل الشرائح ـ وقد جرت العادة بأن عمالها لا يغسلون اللحم ـ فهل يحرم أكلها أو يكره‏؟‏ لكون القصابين يذبحون بسكين ويسلخون بها من غير غسل‏؟‏ وإذا عفي عنه في الأكل‏:‏ فهل يعفي عن الرجل يأكل من ذلك ويصيب ثوبه وبدنه من ذلك ولا يغسله والمراد‏:‏ ما لو جرى بحضرة الصحابة أو فعل‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
أما مقاود الخيل ورباطها فطاهر باتفاق الأئمة؛ لأن الخيل طاهرة بالاتفاق‏.‏ ولكن الحمير فيها خلاف‏:‏ هل هي طاهرة أو نجسة، أو مشكوك فيها‏؟‏ والصحيح الذي لا ريب فيه أن شعرها طاهر؛ إذ قد بينا أن شعر الكلب طاهر، فشعر الحمار أولى‏.‏ وإنما الشبهة في ريق الحمار هل يلحق بريق الكلب أو بريق الخيل‏؟‏ وأما مقاودها وبراذعها فمحكوم بطهارتها، وغاية ما فيها أنه قد يصيبها بول الدواب وروثها‏.‏
وبول البغل والحمار فيه نزاع بين العلماء‏.‏ منهم من يقول‏:‏ هو طاهر ومنهم من ينجسه، وهم الجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ لكن هل يعفي عن يسيره‏؟‏ على قولين‏.‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ فإذا عفي عن يسير بوله وروثه، كان ما يصيب المقاود وغيرها معفوًا عنه‏.‏ وهذا مع تيقن النجاسة‏.‏
وأما مع الشك، فالأصل في ذلك الطهارة، والاحتياط في ذلك وسواس، فإن الرجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرًا ويجوز أن يكون نجسًا لم يستحب له التجنب على الصحيح، ولا الاحتياط، فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مر هو وصاحب له بميزاب فقطر على صاحبه منه ماء‏.‏ فقال صاحبه‏:‏ يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس‏؟‏ فقال عمر‏:‏ يا صاحب الميزاب لا تخبره، فإن هذا ليس عليه‏.‏
وعلى القول بالعفو، فإذا فرش في الخانات وغيرها على روث الحمير ونحوها، فإنه يعفي عن يسير ذلك‏.‏ وأما روث الخيل فالصحيح أنه طاهر، فلا يحتاج إلى عفو، ولا يجب عليه شيء من ذلك إذا دخل الحضر، وسواء كانت يده رطبة من ماء أو غير ذلك، فإنه لا يضره من المقاود‏.‏ وغسل المقاود بدعة لم ينقـل ذلك عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بل كانوا يركبونها‏.‏ وامتن الله عليهم بذلك في قوله تعالى ‏:‏ ‏{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة يركبها، وروي عنه‏:‏ أنه ركب الحمار، وما نقل أنه أمر خُدَّام الدواب أن يحترزوا من ذلك‏.‏
فصـــل
وثوب القصَّاب وبدنه محكوم بطهارته، وإن كان عليه دسم، وغسل اليدين من ذلك وسوسة وبدعة، ومكانه من المسجد وغيره طاهر، وغاية ما يصيب القصاب، أن الدم يصيبه أحيانًا، فالذي يماسه إذا لم يكن عليه دم لا يضره، ولو أصابه دم يسير لعفي عنه؛ لأن الدم اليسير معفو عنه، ونجاسة القصاب ليست من نجاسة الدسم، فإن الدسم طاهر لا نجاسة فيه، ويسير الدم معفو عنه، وغسل يده من مصافحة القصَّاب أو الطواف وسوسة وتنطع مخالف للسنة‏.‏
وقد ذكر البخاري أن عمر بن الخطاب توضأ من جرة امرأة نصرانية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل زبيبة الحسن، وقد صلى وهو حامل أمامة ابنة ابنته، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها‏.‏ ومثل هذا كثير في الآثار يبين سعة الأمر في ذلك‏.‏
فصـــل
أكل الشوى والشريح جائز سواء غسل اللحم أو لم يغسل، بل غسل لحم الذبيحة بدعة، فما زال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون اللحم فيطبخونه ويأكلونه بغير غسله، وكانوا يرون الدم في القدر خطوطًا، وذلك أن الله إنما حرم عليهم الدم المسفوح أى المصبوب المهراق، فأما ما يبقى في العروق فلم يحرمه‏.‏ ولكن حرم عليهم أن يتبعوا العروق كما تفعل اليهود الذين ـ بظلم منهم ـ حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا‏.‏
وسكين القصَّاب يذبح بها ويسلخ، فلا تحتاج إلى غسل، فإن غسل السكاكين التي يذبح بها بدعة، وكذلك غسل السيوف‏.‏ وإنما كان السلف يمسحون ذلك مسحًا؛ ولهذا جاز في أحد قولى العلماء في الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة إذا أصابها نجاسة أن تمسح ولا تغسل وهذا فيما لا يعفي عنه‏.‏
فأما ما تعين عدم نجسه، فلا يحتاج إلى غسل ولا مسح، واليسير يعفي عنه‏.‏ وما عفي عنه، فالحمل والمشي بلا ريب، فإن كل ما جاز أكله، جاز مباشرته في الصلاة وغيرها، وليس كل ما جازت مباشرته في الصلاة وغيرها، جاز أكله، كالسموم المضرة، فإنه لا يجوز أكلها‏.‏ ولو باشرها وإن كانت طاهرة تجوز مباشرتها في الصلاة‏.‏
وذلك لأن الله ـ تعالى ـ حرم علينا الخبائث، وأباح لنا الطيبات، والخبيث يضر، والطيب ينفع، وما ضر في مباشرة الظاهر كانت مضرته بممازجة الأبدان إذا أكل أقوى وأقوى، وليس كل ما ضر بالممازجة والمخالطة يضر بالمباشرة والملامسة؛ ولهذا كان ما عفي عنه في الحمل كدم الجرح والدماميل وما يعلق بالسكين من دم الشاة ونحو ذلك، فهذا إذا وقع في ماء أو مائع فقيل إنه ينجسه، وإنما يعفي عنه في المائعات‏.‏ كما تقدم من أن الله إنما حرم الدم المسفوح، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل أحدهم إصبعه في خيشومه فيلوث أصابعه بالدم فيمضى في صلاته‏.‏ وكذلك كانت أيديهم تصيب الدماميل والجراح ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يتحرجون من مباشرة المائعات حتى يغسلوا أيديهم‏.‏
وقد ثبت أنهم كانوا يضعون اللحم بالقدر فيبقى الدم في الماء خطوطًا، وهذا لا أعلم بين العلماء خلافًا في العفو عنه، وأنه لا ينجس باتفاقهم وحينئذ، فأى فرق بين كون الدم في مرق القدر، أو مائع آخر، وكونه في السكين أو غيرها‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة، فهل ينجس بذلك أم لا‏؟‏ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة من العلماء‏:‏ كالزهري، والبخاري صاحب الصحيح‏.‏
وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو ـ أيضًا ـ مذهب أبي حنيفة، فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسًا، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسًا، مع الكثرة‏.‏
وتنازعوا في القليل‏.‏
إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال‏:‏ إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلاً بغير قصد آدمى فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله‏.‏
وعمدة الذين نجسوه، احتجاجهم بحـديث رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال‏:‏ ‏(‏إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقـربوه‏)‏، وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف‏؟‏‏!‏ بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطًا معروفًا عند النقاد الجهابذة، كما ذكره الترمذي عن البخاري‏.‏
ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح، فلم يعلم العلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه، فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث‏.‏ ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال‏:‏
‏[‏باب‏:‏ إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب‏]‏
حدثنا عبدان، قال‏:‏ حدثنا عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ عن يونس، عن الزهري‏:‏ أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامـد‏.‏ أو غير جامـد ـ الفأرة أو غيرها ـ قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل‏.‏ وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمـن فقـال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏ فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري ـ أعلم الأمة بالسنة في زمانه ـ أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها‏.‏
واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوه‏)‏ ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كان مائعًا فلا تقربوه، بل هذا باطل‏.‏ فذكر البخاري ـ رضى الله عنه ـ هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روي في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنه أجاب بالعموم، في الجامد والذائب، مستدلا بهذا الحديث بعينه، لاسيما والسمن بالحجاز يكون ذائبًا أكثر مما يكون جامدًا، بل قيل‏:‏ إنه لا يكون بالحجاز جامدًا بحال‏.‏
فإطـلاق النبي صلى الله عليه وسلم الجـواب مـن غير تفصيل يـوجب العمـوم؛ إذ الـسؤال كالمعـاد في الجـواب، فكأنـه قـال‏:‏ إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكايـة الحـال مع قيـام الاحتمال يتـنزل منزلـة العمـوم في المقـال‏.‏ هـذا إذا كـان السمـن بالحجاز يكـون جامـدًا ويكـون ذائبًا، فـأمـا إن كـان وجـود الجامـد نادرًا أو معـدومـًا، كان الحـديث نصًا في أن السمـن الذائب إذا وقعت فيـه الفـأرة فـإنها تلقى ومـا حـولها ويؤكـل‏.‏ ولذلك أجـاب الزهري فـإن مـذهبـه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثـيره إلا بالتغـير، وقـد ذكر البخاري في أوائـل الصحيـح‏:‏ التسويـة بين الماء والمائعات‏.‏
وقـد بسطنا الكـلام في هـذه المسألـة ودلائلها، وكـلام العلماء فيها في غير هذا الموضـع‏.‏ كيف وفي تنجيـس مثـل ذلك وتحريمـه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأمـوال العظيمـة القـدر، مـا لا تأتى بمثلـه الشريعة الجامعة للمحاسن كلها‏.‏ والله ـ سبحانه ـ إنما حـرم علينا الخبائث تنزيهًا لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شـيئًا مـن الطيبات، كما حرم على أهـل الكتاب ـ بظلمهم ـ طيبات أحلت لهم‏.‏ ومـن استقـرأ الشريعـة في مـواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد، تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه ‏{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏ والحـمد للَّه وحده وصـلاته على محمـد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا‏.
وَسُئِلَ عن الزيت إذا كان في بئر، ووقعت فيه نجاسة‏:‏ مثل الفأرة والحية، ونحوهما، وماتا فيه‏.‏ فما الحكم إذا كان دون القلتين‏؟‏ وإذا ولغ الكلب في الزيت أو اللبن فما الحكم فيه‏؟‏
فأجاب ـ رحمه الله‏:‏
إذا كان أكثر من القلتين فهو طاهر عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم‏.‏ وإن كان دون القلتين، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏ ومذهب المدنيين وكثير من أهل الحديث أنه طاهر، كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو اختيار طائفة من أصحابه‏:‏ كابن عقيل، وغيره، وكذلك المائع إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فيه نزاع معروف، وقد بسط في موضع آخر‏.‏
والأظهر أنه إذا لم يكن للنجاسة فيه أثر، بل استهلكت فيه ولم تغير له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، فإنه لا ينجس، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏
وَسُئِلَ عما إذا ولغ الكلب في اللبن، ومخض اللبن، وظهر فيه زبدة‏:‏ فهل يحل تطهير الزبدة‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
فأجاب‏:‏
اللبن وغيره من المائعات هل يتنجس بملاقاة النجاسة أو حكمه حكم الماء‏؟‏ هذا فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وكذلك مالك له في النجاسة الواقعة في الطعام الكثير هل تنجسه‏؟‏ فيه قولان‏.‏
وأما ولوغ الكلب في الطعام، فلا ينجسه عند مالك، فهذا ـ على أحد قولى العلماء ـ لم ينجس، وعلى القول الآخر ينجس، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عن أصحابه، لكن عند هؤلاء هل يطهر الدهن بالغسل‏؟‏ فيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان في مذهب مالك ـ أيضًا‏.‏
فمن قال إن الأدهان تطهر بالغسل، قال بطهارته بالغسل، وإلا فلا، والله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ‏:‏ عن الكلب إذا ولغ في اللبن أو غيره ما الذي يجب في ذلك‏؟‏
فأجاب‏:‏
وأما الكلب فقد تنازع العلماء فيه على ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ أنه طاهر حتى ريقه، وهذا هو مذهب مالك‏.‏
والثاني‏:‏ نجس حتى شعره، وهذا هو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد‏.‏
والثالث‏:‏ شعره طاهر، وريقه نجس، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهذا أصح الأقوال‏.‏ فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق الماء‏.‏
وإن ولغ في اللبن ونحوه فمن العلماء من يقول‏:‏ يؤكل ذلك الطعام، كقول مالك وغيره، ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأما إن كان اللبن كثيرًا فالصحيح أنه لا ينجس كما تقدم‏.‏
وَسُئِلَ شَيْخ الإسْلاَم ـ رَحمه الله‏:‏ عن الجبن الإفرنجى، والجوخ‏:‏ هل هما مكروهان، أو قال أحد من الأئمة ممن يعتمد قوله إنهما نجسان، وأن الجبن يدهن بدهن الخنزير، وكذلك الجوخ‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد للَّه، أما الجبن المجلوب من بلاد الإفرنج، فالذين كرهوه ذكروا لذلك سببين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه يوضع بينه شحم الخنزير إذا حمل في السفن‏.‏
والثاني‏:‏ أنهم لا يذكون ما تصنع منه الأنفحة، بل يضربون رأس البقر ولا يذكونه‏.‏
فأما الوجه الأول‏:‏ فغايته أن ينجس ظاهر الجبن، فمتى كشط الجبن، أو غسل طهر، فإن ذلك ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال‏:‏ ‏(‏ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم‏)‏، فإذا كان ملاقاة الفأرة للسمن لا توجب نجاسة جميعه، فكيف تكون ملاقاة الشحم النجس للجبن توجب نجاسة باطنه‏؟‏‏!‏ ومع هذا، فإنما يجب إزالة ظاهره إذا تيقن إصابة النجاسة له، وأما مع الشك، فلا يجب ذلك‏.‏
وأما الوجه الثاني‏:‏ فقد علم أنه ليس كل ما يعقرونه من الأنعام يتركون ذكاته، بل قد قيل‏:‏ أنهم إنما يفعلون هذا بالبقر‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم يفعلون ذلك حتى يسقط، ثم يذكونه‏.‏ ومثل هذا لا يوجب تحريم ذبائحهم، بل إذا اختلط الحرام بالحلال في عدد لا ينحصر ـ كاختلاط أخته بأهل بلد، واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة ـ لم يوجب ذلك تحريم ما في البلد، كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية، والمذكى بالميت، فهذا القدر المذكور لا يوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال‏.‏ وبتقدير أن يكون الجبن مصنوعًا من أنفحة ميتة، فهذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء‏:‏
أحدهما‏:‏ أن ذلك مباح طاهر، كما هو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏
والثاني‏:‏ أنه حرام نجس‏:‏ كقول مالك، والشافعي،وأحمد في الرواية الأخرى، والخلاف مشهور في لبن الميتة وأنفحتها‏:‏ هل هو طاهر أم نجس‏؟‏ والمطهرون احتجوا بأن الصحابة أكلوا جبن المجوس مع كون ذبائحهم ميتة، ومن خالفهم نازعهم كما هو مذكور في موضع آخر‏.‏
وأما الجوخ، فقد حكى بعض الناس أنهم يدهنونه بشحم الخنزير، وقال بعضهم‏:‏ أنه ليس يفعل هذا به كله، فإذا وقع الشك في عموم نجاسة الجوخ لم يحكم بنجاسة عينه، لإمكان أن تكون النجاسة لم تصبها؛ إذ العين طاهرة، ومتى شك في نجاستها، فالأصل الطهارة‏.‏ ولو تيقنا نجاسة بعض أشخاص نوع دون بعض، لم نحكم بنجاسة جميع أشخاصه ولا بنجاسة ما شككنا في تنجسه، ولكن إذا تيقن النجاسة، أو قصد قاصد إزالة الشك، فغسل الجوخة يطهرها، فإن ذلك صوف أصابه دهن نجس‏.‏ وأصابة البول والدم لثوب القطن والكتان أشد وهو به ألصق‏.‏
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أصاب دم الحيض ثوبها‏:‏‏(‏حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ولا يضرك أثره‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏
وَسُئِلَ‏:‏ عن مريض طبخ له دواء، فوجد فيه ذبل الفأر‏؟‏
فأجاب‏:‏
هذه المسألة فيها نزاع معروف بين العلماء، هل يعفي عن يسير بعر الفأر، ففي أحد القولين في مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما، أنه يعفي عن يسيره، فيؤكل ما ذكر، وهذا أظهر القولين‏.‏ والله أعلم‏.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: في حكم منى الإنسان وغيره من أرواث البها    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 11 أغسطس - 15:25

في حكم منى الإنسان وغيره من أرواث البهائم المباحة

وقَالَ ـ رحمَهُ الله‏:‏
أما بعد، فقد كنا في مجلس التفقه في الدين، والنظر في مدارك الأحكام المشروعة تصويرًا وتقريرًا وتأصيلا وتفصيلا، فوقع الكلام في شرح القول في حكم منى الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة، وفي أرواث البهائم المباحة‏:‏ أهى طاهرة أم نجسة‏؟‏ على وجه أحب أصحابنا تقييده، وما يقاربه من زيادة ونقصان، فكتبت لهم في ذلك، فأقول ولا حول ولا قوة إلا باللَّه‏.‏
هذا مبنى على أصل، وفصلين‏.‏ أما الأصل‏:‏
فاعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة ـ على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها ـ أن تكون حلالا مطلقًا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، ومماستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يحصى من الأعمال‏.‏ وحوادث الناس، وقد دل عليها أدلة عشرة ـ مما حضرنى ذكره من الشريعة ـ وهى‏:‏ كتاب الله، وسنة رسوله، واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ثم مسالك القياس، والاعتبار، ومناهج الرأي، والاستبصار‏.‏
الصنف الأول‏:‏ الكتاب، وهو عدة آيات‏.‏
الآية الأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، والخطاب لجميع الناس‏.‏ لافتتاح الكلام بقوله‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏، ووجه الدلالة أنه أخبر، أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافًا إليهم باللام، واللام حرف الإضافة، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه، واستحقاقه إياه من الوجه الذي يصلح له، وهذا المعنى يعم موارد استعمالها‏.‏ كقولهم‏:‏ المال لزيد، والسرج للدابة، وما أشبه ذلك فيجب إذًا أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض فضلاً من الله ونعمة، وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث؛ لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم، أو معادهم، فيبقى الباقي مباحًا بموجب الآية‏.‏
الآية الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏، دلت الآية من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه وبخهم وعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه قبل أن يحله باسمه الخاص، فلو لم تكن الأشياء مطلقة مباحة لم يلحقهم ذم ولا توبيخ؛ إذ لو كان حكمها مجهولا، أو كانت محظورة لم يكن ذلك‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 119‏]‏، والتفصيل التبيين، فبين أنه بين المحرمات، فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم‏.‏ وما ليس بمحرم فهو حلال؛ إذ ليس إلا حلال أو حرام‏.‏
الآية الثالثة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، وإذا كان ما في الأرض مسخرًا لنا، جاز استمتاعنا به كما تقدم‏.‏
الآية الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، فما لم يجد تحريمه، ليس بمحرم‏.‏ وما لم يحرم، فهو حل، ومثل هذه الآية قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏؛ لأن حرف‏:‏ ‏[‏إنما‏]‏ يوجب حصر الأول في الثاني، فيجب انحصار المحرمات فيما ذكر‏.‏ وقد دل الكتاب على هذا الأصل المحيط في مواضع أخر‏.‏
الصنف الثاني‏:‏ السنة والذي حضرني منها حديثان‏:‏
الحديث الأول‏:‏ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أعظم المسلمين جرمًا من يسأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته‏)‏‏.‏ دل ذلك على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص، لقوله‏:‏ لم يحرم، ودل أن التحريم قد يكون لأجل المسألة، فبين بذلك أنها بدون ذلك ليست محرمة، وهو المقصود‏.‏
الثاني‏:‏ روى أبو داود في سننه عن سلمان الفارسي قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال‏:‏ ‏(‏الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏)‏‏.‏ فمنه دليلان‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه أفتى بالإطلاق فيه‏.‏
الثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏)‏، نص في أن ما سكت عنه فلا إثم عليه فيه، وتسميته هذا عفوًا كأنه ـ والله أعلم ـ لأن التحليل هو الإذن في التناول بخطاب خاص، والتحـريم المنع من التناول كذلك، والسكـوت عنه لم يؤذن بخطاب يخصه، ولم يمنع منه، فيرجع إلى الأصل، وهو ألا عقاب إلا بعد الإرسال، وإذا لم يكن فيه عقاب، لم يكن محرما وفي السنة دلائل كثيرة على هذا الأصل‏.‏
الصنف الثالث‏:‏ اتباع سبيل المؤمنين، وشهادة شهداء الله في أرضه الذين هم عدول الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المعصومين من اجتماعهم على ضلالة، المفروض اتباعهم، وذلك أنى لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين‏:‏ في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور‏.‏ وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينا أو ظنا كاليقين‏.‏
فإن قيل‏:‏ كيف يكون في ذلك إجماع، وقد علمت اختلاف الناس في الأعيان قبل مجيء الرسل، وإنزال الكتب، هل الأصل فيها الحظر أو الإباحة‏؟‏ أو لا يدرى ما الحكم فيها‏؟‏ أو أنه لا حكم لها أصلا‏؟‏ واستصحاب الحال دليل متبع، وأنه قد ذهب بعض من صنف في أصول الفقه من أصحابنا وغيرهم على أن حكم الأعيان الثابت لها قبل الشرع مستصحب بعد الشرع، وأن من قال‏:‏ بأن الأصل في الأعيان الحظر استصحب هذا الحكم حتى يقوم دليل الحل‏.‏
فأقول‏:‏ هذا قول متأخر لم يؤثر أصله عن أحد من السابقين‏.‏ ممن له قدم، وذلك أنه قد ثبت أنها بعد مجىء الرسل على الإطلاق، وقد زال حكم ذلك الأصل بالأدلة السمعية التي ذكرتها، ولست أنكر أن بعض من لم يحط علما بمدارك الأحكام، ولم يؤت تمييزًا في مظان الاشتباه، ربما سحب ذيل ما قبل الشرع على ما بعده‏.‏ إلا أن هذا غلط قبيح لو نبه له لتنبه مثل الغلط في الحساب لا يهتك حريم الإجماع، ولا يثلم سنن الاتباع‏.‏
ولقد اختلف الناس في تلك المسألة‏:‏ هل هي جائزة أم ممتنعة‏؟‏ لأن الأرض لم تخل من نبى مرسل؛ إذ كان آدم نبيًا مكلمًا حسب اختلافهم في جواز خلو الأقطار عن حكم مشروع، وإن كان الصواب عندنا جوازه‏.‏
ومنهم من فرضها فيمن ولد بجزيرة، إلى غير ذلك من الكلام الذي يبين لك ألا عمل بها، وأنها نظر محض ليس فيه عمل‏.‏ كالكلام في مبدأ اللغات وشبه ذلك، على أن الحق الذي لا راد له أن قبل الشرع لا تحليل ولا تحريم، فإذًا لا تحريم يستصحب ويستدام، فيبقى الآن كذلك، والمقصود خلوها عن المآثم والعقوبات‏.‏
وأما مسلك الاعتبار بالأشباه والنظائر واجتهاد الرأى في الأصول الجوامع، فمن وجوه كثيرة ننبه على بعضها‏.‏
أحدها‏:‏ أن الله ـ سبحانه ـ خلق هذه الأشياء وجعل فيها للإنسان متاعا ومنفعة‏.‏ ومنها ما قد يضطر إليه وهو ـ سبحانه ـ جواد ماجد كريم رحيم غنى صمد، والعلم بذلك يدل على العلم بأنه لا يعاقبه ولا يعذبه على مجرد استمتاعه بهذه الأشياء وهو المطلوب‏.‏
وثانيها‏:‏ أنها منفعة خالية عن مضرة فكانت مباحة كسائر ما نص على تحليله، وهذا الوصف قد دل على تعلق الحكم به النص وهو قوله‏:‏ ‏{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، فكل ما نفع فهو طيب، وكل ما ضر فهو خبيث‏.‏ والمناسبة الواضحة لكل ذي لب، أن النفع يناسب التحليل، والضرر يناسب التحريم والدوران، فإن التحريم يدور مع المضار وجودًا‏:‏ في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس،وعدما‏:‏في الأنعام والألبان وغيرها‏.‏
وثالثها‏:‏ أن هذه الأشياء إما أن يكون لها حكم أولا يكون، والأول صواب، والثاني باطل بالاتفاق، وإذا كان لها حكم، فالوجوب والكراهة والاستحباب معلومة البطلان بالكلية؛ لم يبق إلا الحل‏.‏ والحرمة باطلة لانتفاء دليلها نصًا واستنباطًا، لم يبق إلا الحل وهو المطلوب‏.‏
إذا ثبت هذا الأصل فنقول‏:‏ الأصل في الأعيان الطهارة لثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة‏.‏ والنجس بخلافه، وأكثر الأدلة السالفة تجمع جميع وجوه الانتفاع بالأشياء‏:‏ أكلا وشربًا ولبسًا ومسًا وغير ذلك، فثبت دخول الطهارة في الحل، وهو المطلوب، والوجهان الآخران نافلة‏.‏
الثاني‏:‏ أنه إذا ثبت أن الأصل جوازا أكلها وشربها فلأن يكون الأصل ملابستها ومخالطتها الخلق أولى وأحرى، وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرًا له، فإذا كان خبيثًا صار البدن خبيثًا فيستوجب النار؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به‏)‏‏.‏ والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب‏.‏ وأما ما يماس البدن ويباشره فيؤثر ـ أىضًا ـ في البدن من ظاهر كتأثير الأخباث في أبداننا وفي ثيابنا المتصلة بأبداننا، لكن تأثيرها دون تأثير المخالط الممازج‏.‏ فإذا حل مخالطة الشيء وممازجته، فحل ملابسته ومباشرته أولى‏.‏ وهذا قاطع لا شبهة فيه‏.‏ وطرد ذلك أن كل ما حرم مباشرته وملابسته، حرم مخالطته وممازجته، ولا ينعكس‏.‏ فكل نجس محرم الأكل، وليس كل محرم الأكل نجسًا‏.‏ وهذا في غاية التحقيق‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك‏.‏ فإنه غاية المتقابلات‏.‏ تجد أحد الجانبين فيها محصورًا مضبوطًا والجانب الآخر مطلق مرسل والله ـ تعالى ـ الهادي للصواب‏.‏
الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة‏:‏
الدليل الأول‏:‏ أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة‏.‏ أما الركن الأول من الدليل، فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة‏.‏ وأما الثاني فنقول‏:‏ إن المنفي على ضربين‏:‏ نفي نحصره ونحيط به، كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان، وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة، وأن محمدًا لا نبي بعده، بل علمنا أنه لا إله إلا الله، وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن، وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان، وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير، وأنه لم يطعم، وأنه البارحة لم ينم، وغير ذلك مما يطول عده، فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله‏:‏ لا تقبل الشهادة على النفي‏.‏
الثاني‏:‏ ما لا يستيقن نفيه وعدمه‏.‏ ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأى، ومنه ما لا يكون كذلك‏.‏ فإذا رأينا حكمًا منوطًا بنفي من الصنف الثاني، فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا‏.‏
والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم‏.‏ فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة‏.‏ شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا ألا دليل إلا ذلك‏.‏
فنقول‏:‏ الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة، ونقض ذلك‏.‏ وقد احتج لذلك بمسلكين‏:‏ أثرى ونظرى‏:‏
أما الأثري‏:‏ فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير‏.‏ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول‏)‏ وروى‏:‏ ‏(‏لا يستنزه ـ‏)‏ والبول اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم‏.‏ كالإنسان في قوله‏:‏ ‏{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}‏‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏، فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماء الجموع، لست أقول‏:‏ الجنس الذي يفصل بين واحده وكثيره الهاء ـ كالتمر، والبر، والشجر ـ فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب‏.‏ وإنما أقول‏:‏ اسم الجنس المفرد الدال على الشيء، وعلى ما أشبهه ـ كإنسان ورجل، وفرس، وثوب، وشبه ذلك‏.‏
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بالعذاب من جنس البول، وجب الاحتراز والتنزه من جنس البول، فيجمع ذلك أبوال جميع الدواب، والحيوان الناطق، والبهيم، ما يؤكل وما لا يؤكل، فيدخل بول الأنعام في هذا العموم، وهو المقصود‏.‏
وهذا قد اعتمد عليه بعض من يدعى الاستدلال بالسمع، وبعض الرأى، وارتضاه بعض من يتكايس، وجعله مفزعًا وموئلاً‏.‏
المسلك الثاني النظري‏:‏ وهو من ثلاثة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ القياس على البول المحرم فنقول‏:‏ بول، وروث، فكان نجسًا كسائر الأبوال، فيحتاج هذا القياس أن يبين أن مناط الحكم في الأصل هو أنه بول وروث، وقد دل على ذلك تنبيهات النصوص مثل قوله‏:‏ ‏(‏اتقـوا البول‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏كان بنـو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض‏)‏‏.‏
والمناسبة ـ أيضًا ـ‏:‏ فإن البول والروث مستخبث مستقذر، تعافه النفوس، على حد يوجب المباينة، وهذا يناسب التحريم، حملا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأحوال، وقد شهد له بالاعتبار تنجس أرواث الخبائث‏.‏
الثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ إذا فحصنا وبحثنا عن الحد الفاصل بين النجاسات والطهارات، وجدنا ما استحال في أبدان الحيوان عن أغذيتها، فما صار جزءًا فهو طيب الغذاء، وما فضل فهو خبيثه؛ ولهذا يسمى رجيعًا‏.‏ كأنه أخذ ثم رجع أى رد‏.‏ فما كان من الخبائث يخرج من الجانب الأسفل‏:‏ كالغائط والبول والمني والوذي والودي، فهو نجس‏.‏ وما خرج من الجانب الأعلى‏:‏ كالدمع والريق والبصاق والمخاط ونخامة الرأس، فهو طاهر‏.‏ وما تردد كبلغم المعدة ففيه تردد‏.‏
وهذا الفصل بين ما خرج من أعلى البدن، وأسفله، قد جاء عن سعيد بن المسيب ونحوه، وهو كلام حسن في هذا المقام الضيق‏.‏ الذي لم يفقه كل الفقه، حتى زعم زاعمون أنه تعبد محض وابتلاء، وتمييز بين من يطيع وبين من يعصى‏.‏
وعندنا أن هذا الكلام لا حقيقة له بمفرده، حتى يضم إليه أشياء أخر، فَرَّق من فَرَّق بين ما استحال في معدة الحيوان كالروث والقىء وما استحال من معدته كاللبن‏.‏
وإذا ثبت ذلك، فهذه الأبوال والأرواث مما يستحيل في بدن الحيوان، وينصع طيبه، ويخرج خبيثه من جهة دبره وأسفله، ويكون نجسا‏.‏ فإن فرق بطيب لحم المأكول، وخبث لحم المحرم، فيقال‏:‏ طيب الحيوان وشرفه وكرمه لا يوجب طهارة روثه، فإن الإنسان إنما حرم لحمه كرامة له وشرفا، ومع ذلك فبوله أخبث الأبوال‏.‏
ألا ترى أنكم تقولون‏:‏ إن مفارقة الحياة لا تنجسه، وأن ما أبين منه ـ وهو حى فهو طاهر ـ أيضًا كما جاء في الأثر ـ وإن لم يؤكل لحمه ـ فلو كان إكرام الحيوان موجبًا لطهارة روثه، لكان الإنسان في ذلك القدح المعلى‏.‏ وهذا سر المسألة ولبابها‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أنه في الدرجة السفلى من الاستخباث، والطبقة النازلة من الاستقذار‏.‏ كما شهد به أنفس الناس، وتجده طبائعهم وأخلاقهم، حتى لا نكاد نجد أحدًا ينزله منزلة در الحيوان ونسله، وليس لنا إلا طاهر، أو نجس‏.‏ وإذا فارق الطهارات، دخل في النجاسات، والغالب عليه أحكام النجاسات ـ من مباعدته ومجانبته ـ فلا يكون طاهرًا؛ لأن العين إذا تجاذبتها الأصول، لحقت بأكثرها شبهًا، وهو متردد بين اللبن وبين غيره من البول، وهو بهذا أشبه‏.‏
ويقـوى هـذا أنـه قـال تعالى‏:‏ ‏{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏، قد ثبت أن الدم نجس، فكذلك الفرث؛ لتظهر القدرة والرحمة في إخراج طيب من بين خبيثين‏.‏ ويبين هذا جميعه أنه يوافق غيره من البول في خلقه ولونه وريحه وطعمـه، فكيف يفـرق بينهما مع هـذه الجوامع التي تكاد تجعل حقيقة أحدهما حقيقة الآخر‏؟‏‏!‏
فالوجه الأول‏:‏ قياس التمثيل وتعليق الحكم بالمشترك المدلول عليه‏.‏
والثاني‏:‏ قياس التعليل بتنقيح مناط الحكم وضبط أصل كلي‏.‏
والثالث‏:‏ التفريق بينه وبين جنس الطاهرات فلا يجوز إدخاله فيها، فهذه أنواع القياس‏:‏ أصل ووصل وفصل‏.‏
فالوجه الأول‏:‏ هو الأصل، والجمع بينه وبين غيره من الأخباث‏.‏
والثاني‏:‏ هو الأصل والقاعدة، والضابط الذي يدخل فيه‏.‏
والثالث‏:‏ الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، وهو قياس العكس فالجواب عن هذه الحجج، والله المستعان‏.‏
أما المسلك الأول‏:‏ فضعيف جدًا لوجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفًا عند المخاطبين، فإن كان المعروف واحدًا معهودًا فهو المراد‏.‏ وما لم يكن ثم عهد بواحد، أفادت الجنس؛ إما جميعه على المرتضى، أو مطلقه على رأي بعض الناس، وربما كانت كذلك‏.‏ وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فأما إذا كان ثَمَّ شيء معهود مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15، 16‏]‏، صار معهودًا بتقدم ذكره، وقوله‏:‏ ‏{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، هو معين؛ لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه، فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الاسم حتى ينظر فيه، هل يفيد تعريف عموم الجنس، أو مطلق الجنس فافهم هذا، فإنه من محاسن المسالك‏.‏
فإن الحقائق ثلاثة‏:‏ عامة، وخاصة، ومطلقة‏.‏
فإذا قلت‏:‏ الإنسان، قد تريد جميع الجنس، وقد تريد مطلق الجنس، وقد تريد شيئًا بعينه من الجنس‏.‏
فأما الجنس العام، فوجوده في القلوب والنفوس علمًا ومعرفة وتصورا‏.‏
وأما الخاص من الجنس‏:‏ مثل زيد وعمرو، فوجوده هو حيث حل، وهو الذي يقال له وجود في الأعيان، وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصًا متميزا‏.‏
وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص، الذي يقال له نفس الحقيقة، ومطلق الجنس، فهذا كما لا يتقيد في نفسه، لا يتقيد بمحله، إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب، فتجعل محلا له بهذا الاعتبار، وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظًا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها‏.‏
فإذا تبين هذا، فقوله‏:‏ فإنه كان لا يستنزه من البول، بيان للبول المعهود، وهو الذي كان يصيبه، وهو بول نفسه‏.‏ يدل على هذا ـ أيضًا ـ سبعة أوجه‏:‏
أحدها‏:‏ ما روى، ‏(‏فإنه كان لا يستبرئ من البول‏)‏ والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه؛ لأنه طلب براءة الذكر، كاستبراء الرحم من الولد‏.‏
الثاني‏:‏ أن اللام تعاقب الإضافة، فقوله‏:‏ ‏(‏من البول‏)‏ كقوله‏:‏ من بوله، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ}‏ ‏[‏ص‏:‏ 50‏]‏، أي أبوابها‏.‏
الثالث‏:‏ أنه قد روى هذا الحديث من وجوه صحيحة‏:‏ ‏(‏فكان لا يستتر من بوله‏)‏ وهذا يفسر تلك الرواية‏.‏
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر‏:‏ عن منصور، روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس‏.‏ ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين، والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنهم رووه بالمعنى، ولم يبن أى اللفظين هو الأصل‏.‏
ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال اللفظين، مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقًا لمعنى الآخر، ويجوز أن يكون مخالفًا، فالظاهر الموافقة‏.‏ يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، ومعلوم أنها قضية واحدة‏.‏
الرابع‏:‏ أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه، ولا يستتر منه‏.‏ ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه‏.‏
الخامس‏:‏ أن الحسن قال‏:‏ البول كله نجس، وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان‏.‏
السادس‏:‏ أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح، فإنه لا يفهم من قوله‏:‏ فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه‏.‏ ولو قيل‏:‏ إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال‏:‏ من بول بعير، وشاة وثور، لكان صدقًا‏.‏
السابع‏:‏ أنه يكفي بأن يقال‏:‏ إذا احتمل أن يريد بول نفسه؛ لأنه المعهود، وأن يريد جميع جنس البول، لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل، فيقف الاستدلال‏.‏ وهذا ـ لعمرى ـ تنزل، وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر، من أنه يجب حمله على البول المعهود، وهو نوع من أنواع البول، وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبًا، ويترشرش على أفخاذه وسوقه، وربما استهان بإنقائه، ولم يحكم الاستنجاء منه‏.‏ فأما بول غيره من الأدميين، فإن حكمه ـ وإن ساوى حكم بول نفسه ـ فليس ذلك من نفس هذه الكلمة، بل لاستوائهما في الحقيقة، والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم‏.‏ ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره، ولو أصابه لساءه ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث، وهو قوله‏:‏ ‏(‏اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه‏)‏ فكيف يكون عامة عذاب القبر من شيء لا يكاد يصيب أحدًا من الناس، وهذا بين لا خفاء به‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه لو كان عامًا في جميع الأبوال، فسوف نذكر من الأدلة الخاصة على طهارة هذا النوع ما يوجب اختصاصه من هذا الاسم العام‏.‏ ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى؛ لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار، والعمل به ترك لبعض معانى العام، وليس استعمال العام وإرادة الخاص ببدع في الكلام، بل هو غالب كثير‏.‏
ولو سلمنا التعارض على التساوي من هذا الوجه، فإن في أدلتنا من الوجوه الموجبة للتقديم والترجيح وجوها أخرى من الكثرة والعمل، وغير ذلك مما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى‏.‏ومن عجيب ما اعتمد عليه بعضهم، قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثر عذاب القبر من البول‏)‏‏.‏ والقول فيه كالقول فيما تقدم ـ مع أنا نعلم إصابة الإنسان بول غيره قليل نادر، وإنما الكثير إصابته بول نفسه‏.‏ ولو كان أراد أن يدرج بوله في الجنس الذي يكثر وقوع العذاب بنوع منه، لكان بمنزلة قوله أكثر عذاب القبر من النجاسات‏.‏
واعتمد ـ أيضًا ـ على قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يصلي أحدكم بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان‏)‏ يعنى البـول والنجـو‏.‏ وزعـم أن هذا يفيد تسمية كل بول ونجو أخبث، والأخبث حرام نجس، وهذا في غاية السقوط؛ فإن اللفظ ليس فيه شمول لغير ما يدافع أصلا‏.‏ وقوله‏:‏ إن الاسم يشمل الجنس كله‏.‏ فيقال له‏:‏ وما الجنس العام‏؟‏ أكل بول ونجو‏؟‏ أم بول الإنسان ونجوه‏؟‏ وقد علم أن الذي يدافع كل شخص من جنس الذي يدافع غيره، فأما ما لا يدافع أصلا، فلا مدخل له في الحديث، فهذه عمدة المخالف‏.‏
وأما المسلك النظري‏:‏ فالجواب عنه من طريقين‏:‏ مجمل، ومفصل‏.‏
أما المفصل فالجواب عن الوجه الأول من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ لا نسلم أن العلة في الأصل أنه بول وروث، وما ذكروه من تنبيه النصوص، فقد سلف الجـواب بأن المراد بها بـول الإنسان‏.‏ ومـا ذكروه مـن المناسبة فنقول‏:‏ التعليل‏:‏ إما أن يكون بجنس استخباث النفس واستقذارها، أو بقدر محدود من الاستخباث والاستقذار‏.‏
فإن كان الأول، وجب تنجيس كل مستخبث مستقذر، فيجب نجاسة المخاط والبصاق والنخامة، بل نجاسة المني الذي جاء الأثر بإماطته من الثياب، بل ربما نفرت النفوس عن بعض هذه الأشياء أشد من نفورها عن أرواث المأكول من البهائم، مثل مخطة المجذوم إذا اختلطت بالطعام، ونخامة الشيخ الكبير إذا وضعت في الشراب، وربما كان ذلك مدعاة لبعض الأنفس إلى أن يذرعه القيء‏.‏
وإن كان التعليل بقدر موقت من الاستقذار، فهذا قد يكون حقًا لكن لابد من بيان الحد الفاصل بين القدر من الاستخباث الموجب للتنجيس، وبين ما لا يوجب، ولم يبين ذلك، ولعل هذه الأعيان مما ينقض بيان استقذارها الحد المعتبر‏.‏
ثم إن التقديرات في الأسباب والأحكام إنما تعلم من جهة استقذارها عن الشرع في الأمـر الغالب، فنقـول‏:‏ متى حكم بنجاسة نوع علمنا أنه مما غلظ استخباثه، ومتى لم يحكم بنجاسة نوع، علمنا أنه لم يغلظ استخباثه فنعود مستدلين بالحكم على المعتبر من العلة، فمتى استربنا في الحكم فنحن في العلة أشد استرابة، فبطل هذا‏.‏ وأما الشاهد بالاعتبار، فكما أنه شهد لجنس الاستخباث، شهد للاستخباث الشديد، والاستقذار الغليظ‏.‏
وثانيهما‏:‏ أن نقـول‏:‏ لم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل أنه بول ما يؤكل لحمه‏؟‏ وهـذه علة مطـردة بالإجماع منا ومـن المخالفـين لنا في هـذه المسألـة والانعكـاس ـ إن لم يكـن واجبًا ـ فقـد حصل الغـرض‏.‏ وإن كـان شـرطًا في العـلل، فنقـول فيه ما قالوا في اطراد العلة وأولى، حيث خولفوا فيه وعدم الانعكاس أيسر من عدم الاطراد‏.‏
وإذا افترق الصنفان في اللحم والعظم واللبن والشعر، فلم لا يجوز افتراقهما في الروث الروث والبول، وهـذه المناسبـة أبين ‏؟‏ فإن كل واحد من هذه الأجزاء هو بعض من أبعاض
البهيمة، أو متولد منها، فيلحق سائرها قياسًا لبعض الشيء على جملته‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا منقوض بالإنسان فإنه طاهر ولبنه طاهر، وكذلك سائر أمواهه وفضلاته، ومع هذا فروثه وبوله من أخبث الأخباث، فحصل الفرق فيه بين البول وغيره‏.‏
فنقول‏:‏ اعلم أن الإنسان فارق غيره من الحيوان في هذا الباب طردًا وعكسًا، فقياس البهائم بعضها ببعض وجعلها في حيز يباين حيز الإنسان، وجعل الإنسان في حيز هو الواجب، ألا ترى أنه لا ينجس بالموت على المختار، وهي تنجس بالموت، ثم بوله أشد من بولها‏؟‏
ألا ترى أن تحريمه مفارق لتحريم غيره من الحيوان، لكرم نوعه وحرمته، حتى يحرم الكافر وغيره، وحتى لا يحل أن يدبغ جلده، مع أن بوله أشد وأغلظ، فهذا وغيره يدل على أن بول الإنسان فـارق سائر فضـلاته، أشـد من مفارقة بول البهائم فضلاتها، إما لعمـوم مـلابسته حتى لا يستخف بـه، أو لغـير ذلك مما الله أعلم به، على أنه يقال‏:‏ في عـذرة الإنسان وبولـه من الخبث والنتن والقذر ما ليس في عامة الأبوال والأرواث‏.‏ وفي الجملـة، فإلحـاق الأبوال باللحـوم في الطهارة والنجاسـة أحسـن طردًا من غيره‏.‏ والله أعلم‏.‏
وأما الوجه الثاني‏:‏ فنقول‏:‏ ذلك الأصل في الآدميين مسلم، والذي جاء عن السلف إنما جاء فيهم من الاستحالة في أبدانهم، وخروجه من الشق الأعلى أو الأسفل‏.‏ فمن أين يقال‏:‏ كذلك سائر الحيوان، وقد مضت الإشارة إلى الفرق‏؟‏‏!‏ ثم مخالفوهم يمنعونهم أكثر الأحكام في البهائم، فيقولون‏:‏ قد ثبت أن ما خبث لحمه، خبث لبنه ومنيه، بخلاف الآدمى، فبطلت هذه القاعدة في الاستحالة، بل قد يقولون‏:‏ إن جميع الفضلات الرطبة من البهائم حكمها سواء، فما طاب لحمه طاب لبنه وبوله وروثه ومنيه وعرقه وريقه ودمعه‏.‏ وما خبث لحمه، خبث لبنه وريقه وبوله وروثه ومنيه وعرقه ودمعه، وهذا قول يقوله أحمد في المشهور عنه، وقد قاله غيره‏.‏
وبالجملة، فاللبن والمني يشهد لهم بالفرق بين الإنسان والحيوان شهادة قاطعة، وباستواء الفضلات من الحيوان ضربا من الشهادة، فعلى هذا، يقال للإنسان‏:‏ يفرق بين ما يخرج من أعلاه وأسفله لما الله أعلم به، فإنه منتصب القامة نجاسته كلها في أعاليه، ومعدته التي هي محل استحالة الطعام والشراب في الشق الأسفل‏.‏وأما الثدى ونحوه فهو في الشق الأعلى، وليس كذلك البهيمة‏.‏ فإن ضرعها في الجانب المؤخر منها، وفيه اللبن الطيب، ولا مطمع في إثبات الأحكام بمثل هذه الحزورات‏.‏
وأما الوجه الثالث‏:‏ فمداره على الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات فإن فصل بنوع الاستقذار، بطل بجميع المستقذرات التي ربما كانت أشد استقذارا منه، وإن فصل بقدر خاص، فلابد من توقيته، وقد مضى تقرير هذا‏.‏
وأما الجواب العام، فمن أوجه ثلاثة‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذا قياس في مقابلة الآثار المنصوصة، وهو قياس فاسد الوضع، ومن جمع بين ما فرقت السنة بينه، فقد ضاهي قول الذين قالوا‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏، ولذلك طهرت السنة هذا ونجست هذا‏.‏
الثاني‏:‏ أن هذا قياس في باب لم تظهر أسبابه وأنواطه، ولم يتبين مأخذه وما‏.‏‏.‏‏.‏، بل الناس فيه على قسمين‏:‏ إما قائل يقول هذا استبعاد محض، وابتلاء صرف، فلا قياس ولا إلحاق ولا اجتماع ولا افتراق‏.‏ وإما قائل يقول‏:‏ دقت علينا علله وأسبابه، وخفيت علينا مسالكه ومذاهبه، وقد بعث الله إلينا رسولا يزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، بعثه إلينا ونحن لا نعلم شيئًا، فإنما نصنع ما رأيناه يصنع، والسنة لا تضرب لها الأمثال، ولا تعارض بآراء الرجال، والدين ليس بالرأى ويجب أن يتهم الرأى على الدين، والقياس في مثل هذا الباب ممتنع باتفاق أولى الألباب‏.‏
الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا كله مداره على التسوية بين بول ما يؤكل لحمه، وبول ما لا يؤكل لحمه، وهو جمع بين شيئين مفترقين، فإن ريح المحرم خبيثة، وأما ريح المباح فمنه ما قد يستطاب‏:‏ مثل أرواث الظباء، وغيرها‏.‏ وما لم يستطب منه فليس ريحه كريح غيره، وكذلك خلقه غالبًا‏.‏ فإنه يشتمل على أشياء من المباح، وهذا لأن الكلام في حقيقة المسألة، وسنعود إليه إن شاء الله في آخرها‏.‏
الدليل الثاني‏:‏ الحديث المستفيض، أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم من حديث أنس ابن مالك‏:‏ أن ناسًا من عُكْل أو عُرَينة قدموا المدينة فاجتووها فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحُّوا قتلوا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود ‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ فوجه الحجة أنه أذن لهم في شرب الأبوال، ولابد أن يصيب أفواههم وأيديهم وثيابهم وآنيتهم، فإذا كانت نجسة وجب تطهير أفواههم وأيديهم وثيابهم للصلاة، وتطهير آنيتهم، فيجب بيان ذلك لهم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز، ولم يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليهم إماطة ما أصابهم منه، فدل على أنه غير نجس، ومن البين أن لو كانت أبوال الإبل كأبوال الناس، لأوشك أن يشتد تغليظه في ذلك‏.‏
ومن قال‏:‏ إنهم كانوا يعلمون أنها نجسة، وأنهم كانوا يعلمون وجوب التطهير من النجاسات، فقد أبعد غاية الإبعاد، وأتى بشيء قد يستيقن بطلانه لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الشريعة أول ما شرعت كانت أخفي، وبعد انتشار الإسلام وتناقل العلم وإفشائه، صارت أبدى وأظهر، وإذا كنا إلى اليوم لم يستبن لنا نجاستها، بل أكثر الناس على طهارتها، وعامة التابعين عليه، بل قد قال أبو طالب وغيره‏:‏ إن السلف ما كانوا ينجسونها‏.‏ ولا يتقونها‏.‏ وقال أبو بكر ابن المنذر‏:‏ وعليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع والخلاف، وقد ذكر طهارة الأبوال عن عامة السلف‏.‏ ثم قال‏:‏ قال الشافعي‏:‏ الأبوال كلها نجس‏.‏ قال‏:‏ ولا نعلم أحدًا قال قبل الشافعي أن أبوال الأنعام وأبعارها نجس‏.‏
قلت‏:‏ وقد نقل عن ابن عمر أنه سئل عن بول الناقة، فقال‏:‏ اغسل ما أصابك منه‏.‏ وعن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال‏:‏ ينضح‏.‏ وعن حماد بن أبي سليمان في بول الشاه والبعير‏:‏ يغسل‏.‏ ومذهب أبي حنيفة نجاسة ذلك على تفصيل لهم فيه‏.‏ فلعل الذي أراده ابن المنذر، القول بوجوب اجتناب قليل البول والروث وكثيره، فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف، ولعل ابن عمر أمر بغسله كما يغسل الثوب من المخاط والبصاق والمني ونحو ذلك‏.‏ وقد ثبت عن أبي موسى الأشعري أنه صلى على مكان فيه روث الدواب والصحراء أمامه‏.‏ وقال ههنا وههنا سواء‏.‏ وعن أنس بن مالك لا بأس ببول كل ذي كرش‏.‏
ولست أعرف عن أحد من الصحابة القول بنجاستها، بل القول بطهارتها، إلا ما ذكر عن ابن عمر إن كان أراد النجاسة فمن أين يكون ذلك معلوم لأولئك‏؟‏‏!‏
وثانيها‏:‏ أنه لو كان نجسًا فوجوب التطهر من النجاسة ليس من الأمور البينة، قد أنكره في الثياب طائفة من التابعين وغيرهم‏.‏ فمن أين يعلمه أولئك‏؟‏
وثالثها‏:‏ أن هذا لو كان مستفيضًا بين ظهرانى الصحابة، لم يجب أن يعلمه أولئك؛ لأنهم حديثو العهد بالجاهلية والكفر، فقد كانوا يجهلون أصناف الصلوات وأعدادها وأوقاتها، وكذلك غيرها من الشرائع الظاهرة، فجهلهم بشرط خفي في أمر خفي أولى وأحرى، لاسيما والقوم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه، ولذلك ارتدوا ولم يخالطوا أهل العلم والحكمة، بل حين أسلموا وأصابهم الاستيخام، أمرهم بالبداوة فيا ليت شعري، من أين لهم العلم بهذا الأمر الخفي‏؟‏‏!‏
ورابعها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في تعليمه وإرشاده واكلاً للتعليم إلى غيره، بل يبين لكل واحد ما يحتاج إليه، وذلك معلوم لمن أحسن المعرفة بالسنن الماضية‏.‏
وخامسها‏:‏ أنه ليس العلم بنجاسة هذه الأرواث أبين من العلم بنجاسة بول الإنسان الذي قد علمه العذارى في حجالهن وخدورهن، ثم قد حذر منه للمهاجرين والأنصار الذين أوتوا العلم والإيمان، فصار الأعراب الجفاة أعلم بالأمور الخفية من المهاجرين والأنصار بالأمور الظاهرة، فهذا كما ترى‏.‏
وسادسها‏:‏ أنه فرق بين الأبوال والألبان وأخرجهما مخرجًا واحدًا‏.‏ والقران بين الشيئين ـ إن لم يوجب استواءهما ـ فلابد أن يورث شبهة، فلو لم يكن البيان واجبًا، لكانت المقارنة بينه وبين الطاهر موجبة للتمييز بينهما إن كان التمييز حقًا‏.‏
وفي الحديث دلالة أخرى فيها تنازع، وهو أنه أباح لهم شربها، ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها، ولست أعلم مخالفًا في جواز التداوي بأبوال الإبل‏.‏ كما جاءت السنة؛ لكن اختلفوا في تخريج مناطه فقيل‏:‏ هو أنها مباحة على الإطلاق، للتداوى وغير التداوي‏.‏ وقيل‏:‏ بل هي محرمة، وإنما أباحها للتداوي‏.‏ وقيل‏:‏ هي مع ذلك نجسة، والاستدلال بهذا الوجه يحتاج إلى ركن آخر، وهو أن التداوي بالمحرمات النجسة محرم، والدليل عليه من وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الأدلة الدالة على التحريم مثل قوله‏:‏ ‏{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، و‏(‏كل ذي ناب من السباع حرام‏)‏‏.‏ و‏{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏، عامة في حال التداوي وغير التداوي، فمن فرق بينهما، فقد فرق بين ما جمع الله بينه وخص العموم، وذلك غير جائز‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد أباحها للضرورة، والمتداوي مضطر فتباح له، أو أنا نقيس إباحتها للمريض على إباحتها للجائع بجامع الحاجة إليها‏.‏
يؤيد ذلك أن المرض يسقط الفرائض من القيام في الصلاة والصيام في شهر رمضان، والانتقال من الطهارة بالماء إلى الطهارة بالصعيد‏.‏ فكذلك يبيح المحارم؛ لأن الفرائض والمحارم من واد واحد‏.‏
يؤيد ذلك أن المحرمات من الحلية واللباس مثل الذهب والحرير قد جاءت السنة بإباحة اتخاذ الأنف من الذهب‏.‏ وربط الأسنان به، ورخص للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير من حكة كانت بهما، فدلت هذه الأصول الكثيرة على إباحة المحظورات حين الاحتياج‏.‏ والافتقار إليها‏.‏
قلت‏:‏ أما إباحتها للضرورة فحق، وليس التداوي بضرورة لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن كثيرًا من المرضى أو أكثر المرضى يشفون بلا تداوٍ، لاسيما في أهل الوبر والقرى‏.‏ والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل، أو دعوة مستجابة، أو رقية نافعة، أو قوة للقلب، وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء‏.‏ وأما الأكل فهو ضروري، ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء، فلو لم يكن يأكل لمات‏.‏ فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء‏.‏

تابع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 11 أغسطس - 15:26


وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء، حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له مثل أيوب ـ عليه السلام ـ وغيره‏.‏
وخصمه حال السلف الصالح، فإن أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ حين قالوا له‏:‏ ألا ندعو لك الطبيب‏؟‏ قال‏:‏ قد رآني‏.‏ قالوا‏:‏ فما قال لك‏؟‏ قال‏:‏ قال‏:‏ إني فعال لما أريد‏.‏ ومثل هذا ونحوه يروي عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب الذي هو أفضل الكوفيين، أو كأفضلهم وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي، وخلق كثير لا يحصون عددًا‏.‏
ولست أعلم سالفًا أوجب التداوي، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلاً واختيارًا لما اختار الله ورضى به، وتسليمًا له‏.‏ وهذا المنصوص عن أحمد وإن كان من أصحابه من يوجبه، ومنهم من يستحبه، ويرجحه‏.‏ كطريقة كثير من السلف استمساكًا لما خلقه الله من الأسباب، وجعله من سنته في عباده‏.‏
وثالثها‏:‏ أن الدواء لا يستيقن، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض؛ إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد، بخلاف دفع الطعام للمسغبة والمجاعة، فإنه مستيقن بحكم سنة الله في عباده وخلقه‏.‏
ورابعها‏:‏ أن المرض يكون له أدوية شتى، فإذا لم يندفع بالمحرم، انتقل إلى المحلل، ومحال ألا يكون له في الحلال شفاء أو دواء، والذي أنزل الداء، أنزل لكل داء دواء إلا الموت، ولا يجوز أن يكون أدوية الأدواء في القسم المحرم، وهو سبحانه الرؤوف الرحيم‏.‏ وإلى هذا، الإشارة بالحديث المروي‏:‏ ‏(‏إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها‏)‏، بخلاف المسغبة فإنها ـ وإن اندفعت بأي طعام ـ اتفق، إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره، فإن صورت مثل هذا في الدواء فتلك صورة نادرة؛ لأن المرض أندر من الجوع بكثير، وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر، فلا ينتقض هذا ‏.‏ على أن في الأوجه السالفة غنى‏.‏
وخامسها‏:‏ ـ وفيه فقه الباب ـ‏:‏ أن الله ـ تعالى ـ جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء، لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة‏.‏ وأما المرض، فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب‏:‏ ظاهرة وباطنة، روحانية وجسمانية، فلم يتعين الدواء مزيلاً، ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين‏.‏ ثم ذلك النوع المعين يخفي على أكثر الناس، بل على عامتهم دركه ومعرفته الخاصة، المزاولون منهم هذا الفن، أولو الأفهام والعقول، يكون الرجل منهم قـد أفنى كثيرًا مـن عمره في معرفته ذلك، ثم يخفي عليه نوع المرض وحقيقته، ويخفي عليه دواؤه وشفاؤه، ففارقت الأسباب المزيلة للمرض، الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها‏.‏ فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا‏.‏ وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة، والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضرورة ما حضرني الآن‏.‏
أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام، والاغتسال؛ فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي‏.‏
وأيضًا، فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه، وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره، وهذا يكاد يكون دليلاً مستقلاً في المسألة‏.‏
وأيضًا، فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج، تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات، وهذا بين بالتأمل‏.‏
وأما الحلية، فإنما أبيح الذهب للأنف، وربط الأسنان؛ لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقينًا كالأكل في المخمصة‏.‏
وأما لبس الحرير للحكة والجرب إن سلم ذلك‏.‏ فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق، فإنهما قد أبيحا لأحد صنفي المكلفين، وأبيح للصنف الآخر بعضهما، وأبيح التجارة فيهما، وإهداؤهما للمشركين‏.‏ فعُلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة، والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء، بخلاف المحرمات من النجاسات‏.‏ وأبيح ـ أيضا ـ لحصول المصلحة في غالب الأمر‏.‏
ثم الفرق بين الحرير والطعام‏:‏ أن باب الطعام يخالف باب اللباس؛ لأن تأثير الطعام في الأبدان، أشد من تأثير اللباس، على ما قد مضي‏.‏ فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة والمحرم من اللباس، يباح للضرورة وللحاجة -أيضا‏.‏ هكذا جاءت السنة، ولا جمع بين ما فرق الله بينه‏.‏ والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات، وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر أيتداوي بها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنها داء، وليست بدواء‏)‏‏.‏
فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر، ردًا على من أباحه، وسائر المحرمات مثلها قياسًا، خلافًا لمن فرق بينهما، فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب، بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام، وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الإسكار والميتة والدم بخلاف ذلك‏.‏
فإن قيل‏:‏ الخمر قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها داء وليست بدواء، فلا يجوز أن يقال‏:‏ هي دواء بخلاف غيرها‏.‏ وأيضا، ففي إباحة التداوي بها إجازة اصطناعها واعتصارها، وذلك داع إلى شربها‏.‏ ولذلك اختصت بالحد بها دون غيرها من المطاعم الخبيثة لقوة محبة الأنفس لها‏.‏
فأقول‏:‏ أما قولك‏:‏ لا يجوز أن يقال‏:‏ هي دواء، فهو حق، وكذلك القول في سائر المحرمات على ما دل عليه الحديث الصحيح ‏(‏إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام‏)‏ ثم ماذا تريد بهذا‏؟‏ أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها‏؟‏ جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع بها بعض الأدواء الباردة، كسائر القوي والطبائع التي أودعها جميع الأدوية من الأجسام، أم تريد شيئًا آخر‏؟‏ فإن أردت الأول، فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم، وجرت عند كثير من الناس مجري الضروريات، بل هو رد لما يشاهد ويعاين‏.‏ بل قد قيل‏:‏ إنه رد للقرآن؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }‏ ‏[‏البقرة‏:‏219‏]‏، ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان‏.‏
وإن أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها داء للنفوس والقلوب والعقول -وهي أم الخبائث- والنفس والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله، وإنما البدن آلة له، وهو تابع له مطيع له طاعة الملائكة ربها، فإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد القلب فسد البدن كله فالخمر هي داء ومرض للقلب مفسد له، مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم، وإذا فسد القلب، فسد البدن كله، كما جاءت به السنة، فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب‏.‏ وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة فإنه ربما صلح عليها البدن ونبت وسمن لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده‏.‏
وأما المصلحة التي فيها، فإنها منفعة للبدن فقط، ونفعها متاع قليل فهي ـ وإن أصلحت شيئا يسيرًا ـ فهي في جنب ما تفسده كَلاَ إصلاح وهذا بعينه معني قوله تعالى‏:‏ ‏{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، فهذا لعمري شأن جميع المحرمات‏.‏ فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب، ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربي على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة‏.‏
على أنا ـ وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات- فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربي على ما نظنه من المصالح‏.‏ فافهم هذا فإن به يظهر فقه المسألة وسرها‏.‏
وأما إفضاؤه إلى اعتصارها، فليس بشيء؛ لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب على أنه يحرم اعتصارها، وإنما القول إذا كانت موجودة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها، ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها‏.‏
وأما اختصاصها بالحد، فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة ـ أيضًا ـ والدم ولحم الخنزير، لكن الفرق أن في النفوس داعيًا طبيعيًا وباعثًا إراديًا إلى الخمر، فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي ـ أيضا ـ ليتقابلا، ويكون مدعاة إلى قلة شربها، وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل، ولا عظيم طلب‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ ما روي حسان بن مخارق قال‏:‏ قالت أم سلمة‏:‏ اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال‏:‏ ‏(‏إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام‏)‏‏.‏ رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ـ وفي رواية‏:‏ ‏(‏إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم‏)‏ وصححه بعض الحفاظ وهذا الحديث نص في المسألة‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ ما رواه أبو داود في السنن‏:‏ أن رجلاً وصف له ضفدع يجعلها في دواء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال‏:‏ ‏(‏إن نقنقتها تسبيح‏)‏، فهذا حيوان محرم ولم يبح للتداوي‏.‏
وهو نص في المسألة‏.‏ ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث وغيرها، فإنه أكثر ما قيل فيها‏:‏ أن نقنقتها تسبيح، فما ظنك بالخنزير والميتة وغير ذلك‏؟‏ وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب واقتضائه وإجرائه مجري الرفق بالمريض وتطييب قلبه، ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل‏:‏ قال له‏:‏ أنا طبيب، قال‏:‏ ‏(‏أنت رفيق والله الطبيب‏)‏‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ ما روي ـ أيضًا ـ في سننه ـ يعني‏:‏ أبا داود ـ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث، وهو نص جامع مانع، وهو صورة الفتوي في المسألة‏.‏
الوجه السادس‏:‏ الحديث المرفوع‏:‏ ‏(‏ما أبالى ما أتيت ـ أو ما ركبت ـ إذا شربت ترياقا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من نفسي‏)‏، مع ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف على أنه لم يقابل ذلك نص عام، ولا خاص يبلغ ذروة المطلب، وسنام المقصد في هذا الموضع ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل، والله الهادي إلى سواء السبيل‏.‏
الدليل الثالث- وهو في الحقيقة رابع‏:‏ الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال‏:‏ ‏(‏صلوا فيها فإنها بركة‏)‏‏.‏ وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؛ فقال‏:‏ ‏(‏لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين‏)‏‏.‏ ووجه الحجة من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ أنه أطلق الإذن بالصلاة، ولم يشترط حائلاً يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه، وقد مضي تقرير هذا‏.‏ وهذا شبيه بقول الشافعي‏:‏ ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقام‏.‏ فإنه ترك استفصال السائل‏:‏ أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها‏؟‏ مع ظهور الاحتمال، ليس مع قيامه فقط، وأطلق الإذن، بل هذا أوكد من ذلك؛ لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد‏.‏
والوجه الثاني‏:‏ أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش، والكنف، أو مكروهة كراهية شديدة؛ لأنها مظنة الأخباث والأنجاس‏.‏ فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبًا من ذلك فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشًا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏
ويؤيد هذا ما روي أن أبا موسي صلي في مبارك الغنم، وأشار إلى البرية وقال‏:‏ ههنا وثَمَّ سواء‏.‏ وهو الصاحب الفقيه العالم بالتنزيل، الفاهم للتأويل، سوي بين محل الأبعار وبين ما خلا عنها، فكيف يجامع هذا القول بنجاستها‏؟‏‏!‏
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فليست اختصت به دون البقر والغنم والظباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقًا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا‏.‏
الدليل الرابع- وهو في الحقيقة سابع‏:‏ ما ثبت واستفاض من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته، وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض، وبركها حتي طاف أسبوعًا‏.‏ وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة، ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة، لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس، مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك، وإنما الحاجة دعت إليه، ولهذا استنكر بعض من يري تنجيسها إدخال الدواب المسجد الحرام، وحسبك بقول بطلانًا، رده في وجه السنة التي لا ريب فيها‏.‏
الدليل الخامس- وهو الثامن‏:‏ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فأما ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله ‏)‏ وهذا ترجمة المسألة‏.‏ إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولاً و ردًا، فقال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال غيره‏:‏ هو موقوف على جابر‏.‏
فإن كان الأول، فلا ريب فيه، وإن كان الثاني، فهو قول صاحب، وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة ـ أبي موسي الأشعري وغيره ـ فينبني على أن قول الصحابة أولي من قول من بعدهم، وأحق أن يتبع‏.‏ وإن علم أنه انتشر في سائرهم، ولم ينكروه، فصار إجماعًا سكوتيًا‏.‏
الدليل السادس ـ وهو التاسع‏:‏ الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ساجدًا عند الكعبة، فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نحروا جزورًا لهم، فجاء بفرثها وسلاها فوضعهما على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد ـ ولم ينصرف حتي قضي صلاته‏.‏ فهذا ـ أيضًا ـ بين في أن ذلك الفرث والسلي لم يقطع الصلاة، ولا يمكن حمله فيما أري إلا على أحد وجوه ثلاثة‏:‏ إما أن يقال‏:‏ هو منسوخ ـ وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع ـ وإن لم يكن قد ثبت ـ لأنه بخطاب كان بمكة‏.‏ وهذا ضعيف جدًا؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين، وأما بالظن، فلا يثبت النسخ‏.‏ وأيضًا ـ فإنا ما علمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب ثم صار واجبًا، لاسيما من يحتج على اجتناب النجاسة بقوله تعالى‏:‏ ‏{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}‏‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏، وسورة المدثر في أول المنزل، فيكون فرض التطهير من النجاسات على قول هؤلاء من أول الفرائض‏.‏ فهذا هذا وإما أن يقال‏:‏ هذا دليل على جواز حمل النجاسة في الصلاة وعامة من يخالف في هذه المسألة، لا يقول بهذا القول، فيلزمهم ترك الحديث‏.‏ ثم هذا قول ضعيف لخلافه الأحاديث الصحاح في دم الحيض وغيره من الأحاديث‏.‏ ثم إني لا أعلمهم يختلفون أنه مكروه، وإن إعادة الصلاة منه أولي، فهذا هذا‏.‏ لم يبق إلا أن يقال‏:‏ الفرث والسلي ليس بنجس وإنما هو طاهر؛ لأنه فرث ما يؤكل لحمه، وهذا هو الواجب ـ إن شاء الله تعالى ـ لكثرة القائلين به وظهور الدلائل عليه‏.‏ وبطول الوجهين الأولين يوجب تعين هذا‏.‏
فإن قيل‏:‏ ففيه السلي وقد يكون فيه دم قلنا‏:‏ يجوز أن يكون دمًا يسيرًا، بل الظاهر أنه يسير‏.‏ والدم اليسير معفو عن حمله في الصلاة‏.‏
فإن قيل‏:‏ فالسلي لحم من ذبيحة المشركين، وذلك نجس، وذلك باتفاق‏.‏ قلنا‏:‏ لا نسلم أنه قد كان حرم ـ حينئذ ـ ذبائح المشركين، بل المظنون أو المقطوع به أنها لم تكن حرمت حينئذ، فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجسون ذبائح قومهم‏.‏ وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام‏.‏ أما ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يتجنبه، ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام، لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل الذين أسلموا ما لا قبل لهم به، فإن عامة أهل البلد مشركون‏.‏ وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا إلا من طعامهم وخبزهم‏.‏ وفي أوانيهم، لقلتهم وضعفهم وفقرهم‏.‏ ثم الأصل عدم التحريم ـ حينئذ ـ فمن ادعاه احتاج إلى دليل‏.‏
الدليل السابع ـ وهو العاشر‏:‏ ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الاستجمار بالعظم، والبعر، وقال‏:‏ ‏(‏إنه زاد إخوانكم من الجن‏)‏‏.‏ وفي لفظ قال‏:‏ ‏(‏فسألوني الطعام لهم ولدوابهم، فقلت‏:‏ لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم‏)‏، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلا تستنجوا بهما، فإنهما زاد إخوانكم من الجن‏)‏‏.‏
فوجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنج بالعظم والبعر ـ الذي هو زاد إخواننا من الجن، وعلف دوابهم ـ ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك؛ لئلا ننجسه عليهم، ولهذا استنبط الفقهاء من هذا أنه لا يجوز الاستنجاء بزاد الإنس‏.‏ ثم إنه قد استفاض النهى في ذلك‏.‏ والتغليظ حتي قال‏:‏ ‏(‏من تقلد وترًا، أو استنجي بعظم، أو رجيع، فإن محمدًا منه بريء‏)‏‏.‏
ومعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسًا، لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن فرق بين البعر المستنجي به والبعر الذي لا يستنجي به، وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه‏.‏ ثم إن البعر لو كان نجسًا، لم يصلح أن يكون علفًا لقوم مؤمنين، فإنها تصير بذلك جلالة‏.‏ ولو جاز أن تصير جلالة، لجاز أن تعلف رجيع الإنس، ورجيع الدواب، فلا فرق ـ حينئذ‏.‏ ولأنه لما جعل الزاد لهم ما فضل عن الإنس، ولدوابهم ما فضل عن دواب الإنس من البعر، شرط في طعامهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، فلابد أن يشرط في علف دوابهم نحو ذلك، وهو الطهارة‏.‏
وهذا يبين لك أن قوله في حديث ابن مسعود لما أتاه بحجرين وروثة فقال‏:‏ ‏(‏إنها ركس‏)‏، إنما كان لكونها روثة آدمي، ونحوه، على أنها قضية عين، فيحتمل أن تكون روثة ما يؤكل لحمه، وروثة ما لا يؤكل لحمه، فلا يعم الصنفين، ولا يجوز القطع بأنها مما يؤكل لحمه، مع أن لفظ الركس لا يدل على النجاسة، لأن الركس هو المركوس أي المردود، وهو معني الرجيع، ومعلوم أن الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال، إما لنجاسته وإما لكونه علف دواب إخواننا من الجن‏.‏
الوجه الثامن ـ وهو الحادي عشر ـ‏:‏ أن هذه الأعيان، لو كانت نجسة، لبينه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولم يبينه، فليست نجسة؛ وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها ومباشرتهم لكثير منها خصوصًا الأمة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإن الإبل والغنم غالب أموالهم، ولا يزالون يباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم ـ مع كثرة الاحتفاء فيهم ـ حتي أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يأمر بذلك‏:‏ تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وانتعلوا‏.‏ ومحالب الألبان كثيرًا ما يقع فيها من أبوالها وليس ابتلاؤهم بها، بأقل من ولوغ الكلب في أوانيهم، فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها، وعدم مخالطته، ويمنع من الصلاة مع ذلك، ويجب تطهير الأرض مما فيه ذلك، إذا صلي فيها‏.‏ والصلاة فيها تكثر في أسفارهم، وفي مراح أغنامهم، ويحرم شرب اللبن الذي يقع فيه بعرها وتغسل اليد إذا أصابها البول، أو رطوبة البعر ـ إلى غير ذلك من أحكام النجاسة ـ لوجب أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا تحصل به معرفة الحكم، ولو بين ذلك لنقل جميعه أو بعضه، فإن الشريعة وعادة القوم توجب مثل ذلك، فلما لم ينقل ذلك علم أنه لم يبين لهم نجاستها‏.‏
وعدم ذكر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها، وعدم النهى عنه، والتقرير دليل الإباحة، ومن وجه أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب، ولا تحال الأمة فيه على الرأي؛ لأنه من الأصول لا من الفروع‏.‏ ومن جهة أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، لاسيما إذا وصل بهذا الوجه‏.‏
الوجه التاسع ـ وهو الثاني عشر‏:‏ وهو أن الصحابة والتابعين وعامة السلف قد ابتلي الناس في أزمانهم بأضعاف ما ابتلوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشك عاقل في كثرة وقوع الحوادث المتعلقة بهذه المسألة‏.‏ ثم المنقول عنهم أحد الشيئين‏:‏ إما القول بالطهارة، أو عدم الحكم بالنجاسة، مثل ما ذكرناه عن أبي موسي وأنس وعبد الله بن مغفل أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين‏.‏ وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالعراق، وعن عبيد بن عمير قال‏:‏ إن لي غنمًا تبعر في مسجدي،وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالحجاز،وعن إبراهيم النخعي أنه سئل فيمن يصلي وقد أصابه السرقين، قال‏:‏ لا بأس، وعن أبي جعفر الباقر ونافع مولي ابن عمر أنه أصابت عمامته بول بعير فقالا جميعًا‏:‏ لا بأس‏.‏ وسألهما جعفر الصادق وهو أشبه بالدليل على أن ما روي عن ابن عمر في ذلك من الغسل، إما ضعيف، أو على سبيل الاستحباب والتنظيف، فإن نافعًا لا يكاد يخفي عليه طريقة ابن عمر في ذلك، ولا يكاد يخالفه، والمأثور عن السلف في ذلك كثير‏.‏
وقد نقل عن بعضهم ألفاظ إن ثبتت فليست صريحة بنجاسة محل النزاع، مثل ما روي عـن الحسن أنـه قال‏:‏ البـول كله يغسـل، وقـد روي عنه أنه قال‏:‏ لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أنه أراد بول الإنســان الذكر والأنثي، والكبير والصغير‏.‏ وكذلك ما روي عن أبي الشعثاء أنه قال‏:‏ الأبوال كلهـــا أنجـــاس‏.‏ فلعله أراد ذلك إن ثبت عنه‏.‏ وقـد ذكرنا عن ابن المنذر وغـيره، أنه لم يعرف عن أحد من السلف القول بنجاستها ومن المعلوم الذي لا شك فيه أن هـذا إجماع على عـدم النجاسة، بل مقتضاه أن التنجيس مـن الأقوال المحـدثة فيكون مـردودًا بالأدلة الدالة على إبطال الحـوادث، لاسيما مقالة محـدثـة مخالفة، لما عليه الصدر الأول‏.‏ ومن المعلوم أن الأعيان الموجودة في زمانهم ومكانهم إذا أمسكوا عن تحريمها وتنجيسها مع الحاجة إلى بيان ذلك،كان تحريمها وتنجيسها ممن بعدهم بمنزلة أن يمسكـوا عـن بيان أفعال يحتاج إلى بيان وجـوبها لو كـان ثابتًا،فيجيء من بعدهم فيوجبها‏.‏
ومتى قام المقتضي للتحريم أو الوجوب ولم يذكروا وجوبًا ولا تحريمًا، كان إجماعًا منهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم ـ وهو المطلوب ـ وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام، وهي أصل عظيم ينبغي للفقيه أن يتأملها، ولا يغفل عن غورها، لكن لا يسلم إلا بعدم ظهور الخلاف في الصدر الأول، فإن كان فيه خلاف محقق بطلت هذه الطريقة والحق أحق أن يتبع‏.‏
الوجه العاشر ـ وهو الثالث عشر في الحقيقة‏:‏ أنَّا نعلم يقينًا أن الحبوب من الشعير والبيضاء والذرة ونحوها، كانت تزرع في مزارع المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ونعلم أن الدواب إذا داست، فلابد أن تروث وتبول، ولو كان ذلك ينجس الحبوب، لحرمت مطلقًا، أو لوجب تنجيسها‏.‏
وقد أسلمت الحجاز واليمن ونجد وسائر جزائر العرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وبعث إليهم سعاته وعماله يأخذون عشور حبوبهم من الحنطة وغيرها، وكانت سمراء الشام تجلب إلى المدينة، فيأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على عهده، وعامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع‏.‏ وكان يعطي المرأة من نسائه ثمانين وسق شعير من غلة خيبر، وكل هذه تداس بالدواب التي تروث وتبول عليها‏.‏ فلو كانت تنجس بذلك لكان الواجب على أقل الأحوال تطهير الحب وغسله، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولا فعل على عهده، فعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بنجاستها‏.‏
ولا يقال‏:‏ هـو لم يتيقن أن ذلك الحب الذي أكله مما أصابه البول، والأصل الطهارة؛ لأنا نقـول فصاحب الحب قد تيقن نجاسة بعض حبه واشتبه عليه الطاهر بالنجس، فلا يحل له استعمال الجميع، بل الواجب تطهير الجميع، كما إذا علم نجاسة بعض البدن أو الثوب أو الأرض وخفي عليه مكان النجاسة، غسل ما يتيقن به غسلها، وهو لم يأمر بذلك‏.‏
ثم اشتباه الطاهر بالنجس نوع من اشتباه الطعام الحلال بالحرام، فكيف يباح أحدهما من غير تحرٍ‏؟‏ فإن القائل إما أن يقول يحرم الجميع‏.‏ وإما أن يقول بالتحري‏.‏ فأما الأكل من أحدهما بلا تحرٍ، فلا أعرف أحدًا جوزه‏.‏ وإنما يستمسك بالأصل مع تيقن النجاسة ولا محيص عن هذا الدليل، إلا إلى أحد الأمرين‏:‏ إما أن يقال بطهارة هذه الأبوال والأرواث، أو أن يقال‏:‏ عفي عنها في هذا الموضع للحاجة‏.‏ كما يعفي عن ريق الكلب في بدن الصيد على أحد الوجهين، وكما يطهر محل الاستنجاء بالحجر في أحد الوجهين إلى غير ذلك من مواضع الحاجات‏.‏
فيقال‏:‏ الأصل فيها استحل جريانه على وفاق الأصل، فمن ادعي أن استحلال هذا مخالف للدليل لأجل الحاجة، فقد ادعي ما يخالف الأصل، فلا يقبل منه إلا بحجة قوية، وليس معه من الحجة ما يوجب أن يجعل هذا مخالفًا للأصل‏.‏
ولا شك أنـه لو قام دليل يوجب الحظر، لأمكن أن يستثني هذا الموضع، فأما ما ذكر مـن العموم الضعيف والقياس الضعيف، فدلالة هذا الموضع على الطهارة المطلقة أقوي من دلالـة تلك على النجاسـة المطلقة، على مـا تبين عنـد التأمل‏.‏ على أن ثبوت طهارتها والعفـو عنها في هذا الموضع أحد موارد الخلاف، فيبقي إلحاق الباقي به بعدم القائل بالفرق‏.‏
ومن جنس هذا‏:‏ الوجه الحادي عشر ـ وهو الرابع عشر‏:‏ إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها، مع القطع ببولها وروثها على الحنطة، ولم ينكر ذلك منكر، ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد، ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه‏.‏ والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالاً، ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة‏.‏
وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد، لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف؛ لئلا يقول المخالف أنا أخالف في هذا‏.‏ وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف‏.‏
وهذا الإجماع من جنس الإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء، فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله، ونتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب ونتيقن أن لابد أن تبول على البيدر الذي يبقي أيامًا ويطول دياسها له، وهذه كلها مقدمات يقينية‏.‏
الوجـه الثاني عشرـ وهو الخامس عشر ـ‏:‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}‏‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، فأمر بتطهير بيته الذي هو المسجد الحرام، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمـر بتنظيف المساجد، وقال‏:‏ ‏(‏جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة‏)‏‏.‏ ومعلوم قطعًا أن الحمام لم يزل ملازمًا للمسجد الحرام لأمنه، وعبادة بيت الله، وأنه لا يزال ذرقه ينزل في المسجد، وفي المطاف والمصلي‏.‏ فلو كان نجسًا لتنجس المسجد بذلك، ولوجب تطهير المسجد منه‏:‏ إما بإبعاد الحمام، أو بتطهير المسجد، أو بتسقيف المسجد، ولم تصح الصلاة في أفضل المساجد، وأمها وسيدها، لنجاسة أرضه، وهذا كله مما يعلم فساده يقينًا‏.‏
ولابد من أحد قولين‏:‏ إما طهارته مطلقًا، أو العفو عنه‏.‏ كما في الدليل قبله، وقد بينا رجحان القول بالطهارة المطلقة‏.‏
الدليل الثالث عشر ـ وهو في الحقيقة السادس عشر‏:‏ مسلك التشبيه والتوجيه فنقول ـ والله الهادي ـ‏:‏ اعلم أن الفرق بين الحيوان المأكول وغير المأكول إنما فرق بينهما لافتراق حقيقتهما، وقد سمي الله هذا طيبًا، وهذا خبيثًا‏.‏
وأسباب التحريم‏:‏ إما القوة السبعية التي تكون في نفس البهيمة، فأكلها يورث نبات أبداننا منها فتصير أخلاق الناس أخلاق السباع، أو لما الله أعلم به، وإما خبث مطعمها كما يأكل الجيف من الطير، أو لأنها في نفسها مستخبئة كالحشرات، فقد رأينا طيب المطعم يؤثر في الحل، وخبثه يؤثر في الحرمة، كما جاءت به السنة في لحوم الجلالة ولبنها وبيضها، فإنه حرم الطيب لاغتذائه بالخبيث، وكذلك النبات المسقي بالماء النجس، والمسمد بالسرقين عند من يقول به‏.‏ وقد رأينا عدم الطعام يؤثر في طهارة البول، أو خفة نجاسته، مثل الصبي الذي لم يأكل الطعام‏.‏ فهذا كله يبين أشياء‏:‏
منها‏:‏ أن الأبوال قد يخفف شأنها بحسب المطعم كالصبي، وقد ثبت أن المباحات لا تكون مطاعمها إلا طيبة، فغير مستنكر أن تكون أبوالها طاهرة لذلك‏.‏
ومنها‏:‏ أن المطعم إذا خبث وفسد، حرم ما نبت منه من لحم ولبن وبيض، كالجلالة والزرع المسمد، وكالطير الذي يأكل الجيف‏.‏ فإذا كان فساده يـؤثر في تنجيس ما توجبه الطهارة والحل، فغير مستنكر أن يكون طيبه وحله يؤثر في تطهير ما يكون في محل آخر نجسًا محرمًا‏.‏ فإن الأرواث والأبوال مستحيلة مخلوقة في باطن البهيمة، كغيرها من اللبن وغيره‏.‏
يبين هذا ما يوجد في هذه الأرواث من مخالفتها غيرها من الأرواث في الخلق والريح واللون، وغير ذلك من الصفات، فيكون فرق ما بينها فرق ما بين اللبنين والمنبتين، وبهذا يظهر خلافها للإنسان‏.‏
يؤكد ذلك ما قد بيناه من أن المسلمين من الزمن المتقدم ـ وإلى اليوم في كل عصر ومصر ـ مازالوا يدوسون الزروع المأكولة بالبقر، ويصيب الحب من أرواث البقر وأبوالها، وما سمعنا أحدًا من المسلمين غسل حبًا،ولو كان ذلك منجسًا أو متقذرًا، لأوشك أن ينهوا عنها وأن تنفر عنه نفوسهم نفورها عن بول الإنسان‏.‏
تابع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
احمد المصرى
المــــدير العـــــام
المــــدير العـــــام
احمد المصرى


عدد المساهمات : 5770
الموقع : منتدى الاخوه

 كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب الطهـــارة (باب المياه)    كتاب الطهـــارة (باب المياه) - صفحة 3 Emptyالخميس 11 أغسطس - 15:26


ولو قيل‏:‏ هذا إجماع عملي لكان حقًا، وكذلك مازال يسقط في المحالب من أبعار الأنعام، ولا يكاد أحد يحترز من ذلك؛ ولذلك عفا عن ذلك بعض من يقول بالتنجيس، على أن ضبط قانون كلي في الطاهر والنجس مطرد منعكس لم يتيسر، وليس ذلك بالواجب علينا بعد علمنا بالأنواع الطاهرة والأنواع النجسة، فهذه إشارة لطيفة إلى مسالك الرأي في هذه المسألة، وتمامه ما حضرني كتابه في هذا المجلس، ‏{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.
الفصل الثاني
في مني الآدمي
وفيه أقوال ثلاثة‏:‏
أحدها‏:‏ أنه نجس كالبول فيجب غسله رطبًا ويابسًا من البدن والثوب، وهذا قول مالك والأوزاعي والثوري وطائفة‏.‏
وثانيها‏:‏ أنه نجس يجزئ فرك يابسه، وهذا قول أبي حنيفة وإسحاق‏.‏ ورواية عن أحمد‏.‏
ثم هنا أوجه‏:‏
قيل‏:‏ يجزئ فرك يابسه‏.‏ ومسح رطبه من الرجل دون المرأة؛ لأنه يعفي عن يسيره‏.‏ ومني الرجل يتأتي فركه ومسحه، بخلاف مني المرأة فإنه رقيق كالمذي، وهذا منصوص أحمد‏.‏
وقيل‏:‏ يجزئ فركه فقط منهما لذهابه بالفرك، وبقاء أثره بالمسح‏.‏
وقيل‏:‏ بل الجواز مختص بالفرك من الرجل دون المرأة، كما جاءت به السنة، كما سنذكره‏.‏
وثالثها‏:‏ أنه مستقذر كالمخاط والبصاق، وهذا قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وهو الذي نصرناه والدليل عليه وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ما أخرج مسلم وغيره عن عائشة قالت‏:‏ كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه، ـ وروي في لفظ الدارقطني‏:‏ كنت أفركه إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا، فهذا نص في أنه ليس كالبول يكون نجسًا نجاسة غليظة‏.‏
فبقي أن يقال‏:‏ يجوز أن يكون نجسًا كالدم، أو طاهرًا كالبصاق لكن الثاني أرجح؛ لأن الأصل وجوب تطهير الثياب من الأنجاس قليلها وكثيرها‏.‏ فإذا ثبت جواز حمل قليله في الصلاة، ثبت ذلك في كثيره، فإن القياس لا يفرق بينهما‏.‏
فإن قيل‏:‏ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه، فهذا يعارض حديث الفرك في مني رسول الله صلى الله عليه وسلم والغسل دليل النجاسة، فإن الطاهر لا يطهر‏.‏
فيقال‏:‏ هذا لا يخالفه؛ لأن الغسل للرطب، والفرك لليابس، كما جاء مفسرًا في رواية الدارقطني‏.‏ أو هذا أحيانًا، وهذا أحيانًا‏.‏ وأما الغسل فإن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق والنخامة استقذارًا لا تنجيسًا‏.‏ ولهذا قال سعد بن أبي وقاص‏.‏ وابن عباس‏:‏ أمطه عنك ولو بإذخرة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق‏.‏
الدليل الثاني‏:‏ ما روي الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته ثبوبه يابسًا ثم يصلي فيه‏.‏ وهذا من خصائص المستقذرات، لا من أحكام النجاسات‏.‏ فإن عامة القائلين بنجاسته لا يجوزون مسح رطبه‏.‏
الدليل الثالث‏:‏ ما احتج به بعض أولينا بما رواه إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب، فقال‏:‏ ‏(‏إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة‏)‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا لا يقدح؛ لأن إسحاق بن يوسف الأزرق أحد الأئمة‏.‏ وروي عن سفيان وشريك وغيرهما، وحدث عنه أحمد ومن في طبقته، وقد أخرج له صاحبا الصحيح فيقبل رفعه وما ينفرد به‏.‏
وأنا أقول‏:‏ أما هذه الفتيا، فهي ثابتة عن ابن عباس، وقبله سعد بن أبي وقاص، ذكر ذلك عنهما الشافعي وغيره في كتبهم‏.‏ وأما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمنكر باطل لا أصل له؛ لأن الناس كلهم رووه عن شريك موقوفًا‏.‏ ثم شريك ومحمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي ليلي ليسا في الحفظ بذاك، والذين هم أعلم منهم بعطاء مثل ابن جريج الذي هو أثبت فيه من القطب وغيره من المكيين لم يروه أحدٌ إلا موقوفًا، وهذا كله دليل على وهم تلك الرواة‏.‏
فإن قلت‏:‏ أليس من الأصول المستقرة أن زيادة العدل مقبولة‏؟‏ وأن الحكم لمن رفع لا لمن وقف لأنه زائد‏؟‏
قلت‏:‏ هذا عندنا حق مع تكافؤ المحدثين المخبرين وتعادلهم، وأما مع زيادة عدد من لم يزد فقد اختلف فيه أولونا‏.‏ وفيه نظر‏.‏
وأيضًا، فإنما ذاك إذا لم تتصادم الروايتان وتتعارضا، وأما متى تعارضتا يسقط رواية الأقل بلا ريب‏.‏ وههنا المروي ليس هو مقابل بكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالها، ثم قالها صاحبه تارة؛ تارة ذاكرًا، وتارة آثرًا‏.‏ وإنما هو حكاية حال وقضية عين في رجل استفتي على صورة، وحروف مأثورة، فالناس ذكروا أن المستفتي ابن عباس، وهذه الرواية ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليست القضية إلا واحدة؛ إذ لو تعددت القضية لما أهمل الثقات الأثبات ذلك على ما يعرف من اهتمامهم بمثل ذلك‏.‏
وأيضًا، فأهل نقد الحديث والمعرفة به أقعد بذلك، وليسوا يشكون في أن هذه الرواية وهم‏.‏
الدليل الرابع‏:‏ أن الأصل في الأعيان الطهارة فيجب القضاء بطهارته حتي يجيئنا ما يوجب القول بأنه نجس، وقد بحثنا وسبرنا فلم نجد لذلك أصلاً،فعلم أن كل ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته معفو عنه‏.‏ ومعلوم أن المني يصيب أبدان الناس وثيابهم وفرشهم بغير اختيارهم أكثر مما يلغ الهر في آنيتهم، فهو طواف الفضلات، بل قد يتمكن الإنسان من الاحتراز من البصاق والمخاط المصيب ثيابه، ولا يقدر على الاحتراز من مني الاحتلام والجماع، وهذه المشقة الظاهرة توجب طهارته، ولو كان المقتضي للتنجيس قائمًا‏.‏
ألا تري أن الشارع خفف في النجاسة المعتادة فاجتزأ فيها بالجامد، مع أن إيجاب الاستنجاء عند وجود الماء أهون من إيجاب غسل الثياب من المني، لاسيما في الشتاء في حق الفقير، ومن ليس له إلا ثوب واحد‏.‏
فإن قيل‏:‏ الذي يدل على نجاسة المني وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ ما روي عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما يغسل الثوب من البول والغائط والمني والقيء‏)‏‏.‏ رواه ابن عدي‏.‏ وحديث عائشة قد مضي في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسله‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه خارج يوجب طهارتي الخبث والحدث، فكان نجسًا كالبول والحيض؛ وذلك لأن إيجاب نجاسة الطهارة دليل على أنه نجس‏.‏ فإن إماطته وتنحيته أخف من التطهير منه، فإذا وجب الأثقل فالأخف أولي‏.‏ لاسيما عند من يقول بوجوب الاستنجاء منـه‏.‏ فـإن الاستنجاء إماطـة وتنحيـة، فإذا وجب تنحيته في مخرجه، ففي غير مخرجه أحق وأولي‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أنه من جنس المذي فكان نجسًا كالمذي؛ وذاك لأن المذي يخرج عنه مقدمات الشهوة، والمني أصل المذي عند استكمالها وهو يجري في مجراه، ويخرج من مخرجه، فإذا نجس الفرع فلأن ينجس الأصل أولي‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أنه خارج من الذكر، أو خارج من القبل، فكان نجًسا كجميع الخوارج‏:‏ مثل البول، والمذي، والودي؛ وذلك لأن الحكم في النجاسة منوط بالمخرج‏.‏
ألا تري أن الفضلات الخارجة من أعالى البدن ليست نجسة، وفي أسافله تكون نجسة، وإن جمعها الاستحالة في البدن‏؟‏‏!‏
الوجه الخامس‏:‏ أنه مستحيل عن الدم؛ لأنه دم قصرته الشهوة؛ ولهذا يخرج عند الإكثار من الجماع أحمر، والدم نجس، والنجاسة لا تطهر بالاستحالة عندكم‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أنه يجري في مجري البول فيتنجس بملاقاة البول، فيكون كاللبن في الظرف النجس، فهذه أدلة كلها تدل على نجاسته‏.‏
فنقول‏:‏ الجواب ـ وعلى الله قصد السبيل ـ‏:‏ أما حديث عمار بن ياسر، فلا أصل له‏.‏ في إسناده ثابت بن حماد، قال الدارقطني‏:‏ ضعيف جدًا، وقال ابن عدي‏:‏ له مناكير، وحديث عائشة مضي القول فيه‏.‏
وأما الوجه الثاني فقولهم‏:‏ يوجب طهارتي الخبث والحدث، أما الخبث فممنوع، بل الاستنجاء منه مستحب كما يستحب إماطته من الثوب والبدن، وقد قيل‏:‏ هو واجب، كما قد قيل يجب غسل الأنثيين من المذي، وكما يجب غسل أعضاء الوضوء إذا خرج الخارج من الفرج، فهذا كله طهارة وجبت لخارج، وإن لم يكن المقصود بها إماطته وتنجيسه، بل سبب آخر كما يغسل منه سائر البدن‏.‏
فالحاصل أن سبب الاستنجاء منه ليس هو النجاسة، بل سبب آخر‏.‏ فقولهم‏:‏ يوجب طهارة الخبث وصف ممنوع في الفرع، فليس غسله عن الفرج للخبث، وليست الطهارات منحصرة في ذلك كغسل اليد عند القيام من نوم الليل، وغسل الميت، والأغسال المستحبة، وغسل الأنثيين وغير ذلك ـ فهذه الطهارة إن قيل بوجوبها فهي من القسم الثالث، فيبطل قياسه على البول؛ لفساد الوصف الجامع‏.‏
وأما إيجابه طهارة الحدث فهو حق، لكن طهارة الحدث ليست أسبابها منحصرة في النجاسات‏.‏ فإن الصغري تجب من الريح إجماعًا، وتجب بموجب الحجة من ملامسة الشهوة، ومن مس الفرج، ومن لحوم الإبل، ومن الردة، وغسل الميت، وقد كانت تجب في صدر الإسلام من كل ما غيرته النار، وكل هذه الأسباب غير نجسة‏.‏
وأما الكبري‏:‏ فتجب بالإيلاج إذا التقي الختانان ولا نجاسة، وتجب بالولادة التي لا دم معها ـ على رأي مختار ـ والولد طاهر‏.‏ وتجب بالموت ولا يقال هو نجس‏.‏ وتجب بالإسلام ـ عند طائفة‏.‏
فقولهم‏:‏ إنما أوجب طهارة الحدث، أو أوجب الاغتسال نجس منتقض بهذه الصور الكثيرة، فبطل طرده، فإن ضموا إلى العلة كونه خارجا انتقض بالريح والولد نقضاً قادحا‏.‏
ثم يقال‏:‏ قولكم خارج وصف طردي فلا يجوز الاحتراز به‏.‏ ثم إن عكسه ـ أيضاً ـ باطل، والوصف عديم التأثير، فإن ما لا يوجب طهارة الحدث منه شيء كثير نجس‏:‏ كالدم الذي لم يسل، وإليسير من القيء‏.‏
وأيضاً، فسيأتي الفرق ـ إن شاء الله تعالى ـ فهذه أوجه ثلاثة أو أربعة‏.‏
وأما قولهم‏:‏ التطهير منه أبعد من تطهيره، فجمع ما بين متفاوتين متباينين، فإن الطهارة منه طهارة عن حدث، وتطهيره إزالة خبث‏.‏ وهما جنسان مختلفان في الحقيقة والأسباب والأحكام من وجوه كثيرة؛ فإن هذه تجب لها النية دون تلك‏.‏
وهذه من باب فعل المأمور به، وتلك من باب اجتناب المنهي عنه وهذه مخصوصة بالماء أو التراب، وقد تزال تلك بغير الماء في مواضع بالاتفاق، وفي مواضع على رأي، وهذه يتعدي حكمها محل سببها إلى جميع البدن، وتلك يختص حكمها بمحلها‏.‏ وهذه تجب في غير محل السبب أو فيه وفي غيره، وتلك تجب في محل السبب فقط، وهذه حسية وتلك عقلية، وهذه جارية في أكثر أمورها على سنن مقايس البحاثين، وتلك مستصعبة على سبر القياس، وهذه واجبة بالاتفاق، وفي وجوب الأخري خلاف معلوم‏.‏ وهذه لها بدل، وفي بدل تلك في البدن خاصة خلاف ظاهر‏.‏
وبالجملة، فقياس هذه الطهارة على تلك الطهارة كقياس الصلاة على الحج؛ لأن هذه عبادة، وتلك عبادة مع اختلاف الحقيقتين‏.‏
وأما الوجه الثالث‏:‏ وهو إلحاقه بالمذي فقد منع الحكم في الأصل على قول بطهارة المذي، والأكثرون سلموه، وفرقوا بافتراق الحقيقتين‏:‏ فإن هذا يخلق منه الولد الذي هو أصل الإنسان، وذلك بخلافه‏.‏ ألا تري أن عدم الإمناء عيب يبني عليه أحكام كثيرة‏؟‏ منشؤها على أنه نقص، وكثرة الإمذاء ربما كانت مرضاً، وهو فضلة محضة، لا منفعة فيه كالبول، وإن اشتركا في انبعاثهما عن شهوة النكاح، فليس الموجب لطهارة المني أنه عن شهوة الباءة فقط؛ بل شيء آخر‏.‏ وإن أجريناه مجراه فنتكلم عليه ـ إن شاء الله تعالى‏.‏
وأما كونه فرعا فليس كذلك، بل هو بمنزلة الجنين الناقص‏:‏ كالإنسان إذا أسقطته المرأة قبل كمال خلقه، فإنه ـ وإن كان مبدأ خلق الإنسان ـ فلا يناط به من أحكام الإنسان إلا ما قل، ولو كان فرعا؛ فإن النجاسة استخباث وليس استخباث الفرع بالموجب خبث أصله‏:‏ كالفضول الخارجة من الإنسان‏.‏
وأما الوجه الرابع‏:‏ فقياسه على جميع الخارجات بجامع اشتراكهن في المخرج منقوض بالفم، فإنه مخرج النخامة والبصاق الطاهرين، والقيء النجس‏.‏ وكذلك الدبر مخرج الريح الطاهر، والغائط النجس‏.‏ وكذلك الأنف مخرج المخاط الطاهر، والدم النجس‏.‏
وإن فصلوا بين ما يعتاد الناس من الأمور الطبيعية وبين ما يعرض لهم لأسباب حادثة‏.‏
قلنا‏:‏ النخامة المعدية ـ إذا قيل بنجاستها ـ معتادة، وكذلك الريح‏.‏
وأيضاً، فإنا نقول‏:‏ لم قلتم أن الاعتبار بالمخرج‏؟‏ ولم لا يقال الاعتبار بالمعدن والمستحال‏؟‏ فما خلق في أعلى البدن فطاهر، وما خلق في أسفله فنجس، والمني يخرج من بين الصلب والترائب، بخلاف البول والودي‏؟‏ وهذا أشد اطراداً؛ لأن القيء والنخامة المنجسة خارجان من الفم، لكن لما استحالا في المعدة كانا نجسين‏.‏ وأيضاً، فسوف نفرق ـ إن شاء الله تعالى‏.‏
وأما الوجه الخامس‏:‏ فقولهم‏:‏ مستحيل عن الدم، والاستحالة لا تطهر‏:‏ عنه عدة أجوبة مستنيرة قاطعة‏.‏
أحدها‏:‏ أنه منقوض بالآدمي وبمضغته، فإنهما مستحيلان عنه، وبعده عن العلقة، وهي دم ولم يقل أحد بنجاسته، وكذلك سائر البهائم المأكولة‏.‏
وثانيها‏:‏ أنا لا نسلم أن الدم قبل ظهوره وبروزه يكون نجسًا، فلابد من الدليل على تنجيسه، ولا يغني القياس عليه إذا ظهر وبرز باتفاق الحقيقة؛ لأنا نقول الدليل على طهارته وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن النجس هو المستقذر المستخبث، وهذا الوصف لا يثبت لهذه الأجناس إلا بعد مفارقتها مواضع خلقها، فوصفها بالنجاسة فيها وصف بما لا تتصف به‏.‏
وثانيها‏:‏ أن خاصة النجس وجوب مجانبته في الصلاة، وهذا مفقود فيها في البدن من الدماء وغيرها‏.‏ ألا تري أن من صلي حاملاً وعاءً مسدوداً قد أوعي دما لم تصح صلاته، فلئن قلت‏:‏ عفي عنه لمشقة الاحتراز‏.‏ قلت‏:‏ بل جعل طاهراً لمشقة الاحتراز، فما المانع منه، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلل طهارة الهرة بمشقة الاحتراز، حيث يقول‏:‏ ‏(‏إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات‏)‏‏.‏
بل أقول‏:‏ قد رأينا جنس المشقة في الاحتراز مؤثراً في جنس التخفيف‏.‏ فإن كان الاحتراز من جميع الجنس مشقاً عفي عن جميعه، فحكم بالطهارة‏.‏ وإن كان من بعضه عفي عن القدر المشق، وهنا يشق الاحتراز من جميع ما في داخل الأبدان، فيحكم لنوعه بالطهارة كالهر وما دونها، وهذا وجه ثالث‏.‏
الوجه الرابع‏:‏ أن الدماء المستخبثة في الأبدان وغيرها هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته إلا بها حتي سميت نفساً، فالحكم بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعا نجساً في غاية البعد‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن الأصل الطهارة، فلا تثبت النجاسة إلا بدليل وليس في هذه الدماء المستخبثة شيء من أدلة النجاسة، وخصائصها‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أنا قد رأينا الأعيان تفترق حالها‏:‏ بين ما إذا كانت في موضع عملها ومنفعتها، وبين ما إذا فارقت ذلك‏.‏ فالماء المستعمل ما دام جاريا في أعضاء المتطهر، فهو طهور‏.‏ فإذا انفصل، تغيرت حاله‏.‏ والماء في المحل النجس ما دام عليه، فعمله باق وتطهيره، ولا يكون ذلك إلا لأنه طاهر مطهر، فإذا فارق محل عمله، فهو إما نجس أو غير مطهر‏.‏ وهذا مع تغير الأمواه في موارد التطهير تارة بالطاهرات وتارة بالنجاسات، فإذا كانت المخالطة التي هي أشد أسباب التغيير لا تؤثر في محل عملنا وانتفاعنا، فما ظنك بالجسم المفرد في محل عمله بخلق الله وتدبيره، فافهم هذا فإنه لباب الفقه‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ عن أصل الدليل‏:‏ أنا لو سلمنا أن الدم نجس، فإنه قد استحال وتبدل‏.‏ وقولهم‏:‏ الاستحالة لا تطهر‏.‏
قلنا‏:‏ من أفتى بهذه الفتوى الطويلة العريضة المخالفة للإجماع‏؟‏‏!‏ فإن المسلمين أجمعوا أن الخمر إذا بدأ الله بإفسادها وتحويلها خلا طهرت، وكذلك تحويل الدواب والشجر، بل أقول‏:‏ الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلاً، والدم منيًا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيباً، وكذلك بيضها ولبنها والزرع المسقي بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجيس، ويزول حقيقة النجس ـ واسمه التابع للحقيقة ـ وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض، فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقاً بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها‏.‏
وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان، كإحراق الروث حتي يصير رماداً، ووضع الخنزير في الملاحة حتي يصير ملحاً، ففيه خلاف مشهور‏.‏ وللقول بالتطهير اتجاه وظهور، ومسألتنا من القسم الأول‏.‏ وللَّه الحمد‏.‏
الدليل الخامس‏:‏ أن المني مخالف لجميع ما يخرج من الذكر في خلقه، فإنه غليظ وتلك رقيقة‏.‏ وفي لونـه فإنـه أبيض شـديد البياض‏.‏ وفي ريحـه فـإنـه طيب كرائحه الطلع، وتلك خبيثة‏.‏ ثم جعله الله أصلاً لجميع أنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين‏.‏ والإنسان المكرم، فكيف يكون أصله نجساً‏؟‏‏!‏ولهذا قال ابن عقيل ـ وقد ناظر بعض من يقول بنجاسته، لرجل قـال له‏:‏ ما بالك وبال هذا‏؟‏ ـ قال‏:‏أريد أن أجعل أصله طاهرا وهو يأبي إلا أن يكون نجساً‏!‏‏!‏
ثم ليس شأنه شأن الفضول، بل شأن ما هو غذاء ومادة في الأبدان؛ إذ هو قوام النسل، فهو بالأصول أشبه منه بالفضل‏.‏
الدليل السادس ـ وفيه أجوبـة ـ‏:‏ أحـدها‏:‏ لا نسلم أنه يجري في مجري البول، فقد قيل‏:‏ إن بينهما جلدة رقيقة، وإن البول إنما يخرج رشحاً وهذا مشهور‏.‏ وبالجملة، فلابد مـن بيان اتصالهما، وليس ذلك معلومًا إلا في ثقب الذكر، وهو طاهر أو معفو عن نجاسته‏.‏
الوجه الثاني‏:‏ أنه لو جري في مجراه فلا نسلم أن البول قبل ظهوره نجس‏.‏ كما مر تقريره في الدم، وهو في الدم أبين منه في البول؛ لأن ذلك ركن وبعض، وهذا فضل‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أنه لو كان نجساً، فلا نسلم أن المماسة في باطن الحيوان موجبة للتنجيس‏.‏ كما قد قيل في الاستحالة، وهو في المماسة أبين‏.‏ يؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 66‏]‏، ولو كانت المماسة في الباطن للفرث مثلاً موجبة للنجاسة، لنجس اللبن‏.‏
فإن قيل‏:‏ فلعل بينهما حاجزاً‏.‏
قيل‏:‏ الأصل عدمه، على أن ذكره هذا في معرض بيان ذكر الاقتدار بإخراج طيب من بين خبيثين في الاغتذاء، ولا يتم إلا مع عدم الحاجز، وإلا فهو مع الحاجز ظاهر في كمال خلقه ـ سبحانه‏.‏
وكذلك قوله‏:‏ ‏{خَالِصًا}‏ والخلوص لابد أن يكون مع قيام الموجب للشوب‏.‏ وبالجملة، فخروج اللبن من بين الفرث والدم أشبه شيء بخروج المني من مخرج البول، وقد سلك هذا المسلك من رأي أنفحة الميتة ولبنها طاهراً؛ لأنه كان طاهراً، وإنما حدث نجاسة الوعاء فقال‏:‏ الملاقاة في الباطن غير ظاهر‏.‏
ومن نجس هذا فرق بينه وبين المني، بأن المني ينفصل عن النجس في الباطن ـ أيضاً ـ بخـلاف اللبن فإنـه لا يمكـن فصلـه مـن الميتة إلا بعد إبراز الضرع، وحينئذ يصير في حد مـا يلحقه النجاسة‏.‏ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفي‏.‏ وهذا الذي حضرني في هذا الوقت، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلى العظيم‏.
وَسُئِلَ عن المني هل هو طاهر أم لا‏؟‏ وإذا كان طاهراً فما حكم رطوبة فرج المرأة إذا خالطه‏؟‏
فأجاب‏:‏
وأما المني، فالصحيح أنه طاهر، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه‏.‏
وقد قيل‏:‏ إنه نجس يجزئ فركه ـ كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية أخري ـ وهل يعفي عن يسيره كالدم، أو لا يعفي عنه كالبول‏؟‏ على قولين هما روايتان عن أحمد‏.‏
وقيـل‏:‏ إنه يجب غسله ـ كقول مالك، والأول هو الصواب‏.‏ فإنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يحتلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المني يصيب بدن أحدهم وثيابه‏.‏ وهذا مما تعم به البلوي، فلو كان ذلك نجساً لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإزالة ذلك من أبدانهم وثيابهم، كما أمرهم بالاستنجاء، وكما أمر الحائض بأن تغسل دم الحيض من ثوبها، بل إصابة الناس المني أعظم بكثير من إصابة دم الحيض لثوب الحيض‏.‏
ومن المعلوم أنه لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً من الصحابة بغسل المني من بدنه ولا ثوبه، فَعُلِم يقيناً أن هذا لم يكن واجباً عليهم، وهذا قاطع لمن تدبره‏.‏
تابع


عدل سابقا من قبل احمد المصرى في الخميس 11 أغسطس - 15:28 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alo5owah.ahlamontada.com
 
كتاب الطهـــارة (باب المياه)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 3 من اصل 4انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
»  23 نوعا من المياه
» ذكر القرآن الكريم 23 نوعا من المياه
» كتاب صفة الصفوة
»  كتاب الله
» رياض الصالحين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الاخوه ايد فى ايد :: مـنــتـــــدى الاسلامى :: اسلاميات-
انتقل الى: