نعمة الصحة .. هل شكرت الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه النعمة؟ هل تعلم يقينًا أنك إن دخلت إلى دورة المياه على قدميك، وطهرت نفسك بيديك دون حاجة إلى ابن من أبنائك أو حتى إلى زوجتك، هل تعلم أنها نعمة من أشرف النعم بعد التوحيد والإيمان.
لذا كان "الصِّدِّيق" ـ رضي الله عنه ـ إذا دخل الخلاء وخرج وضع يده على بطنه وقال: يا لها من نعمة منسية، غفل عن شكرها كثير من الناس.
دخل "ابن السماك" ـ الزاهد العابد الواعظ ـ على ملك من الملوك، وكان بيده كوب من الماء البارد، فلما أراد شربه، قال: أسألك بالله يا سيدي لو منع عنك هذا الكوب فبكم تشتريه؟ قال: والله بنصف ملكي. قال: أسألك بالله يا سيدي لو حبس فيك هذا الماء فبكم تشتري إخراجه؟ قال: بنصفه الآخر. فبكي "ابن السماك" وقال: اشرب هنأك الله، بئس مُلك لا يساوي شربة ماء.
نعمة العقل .. أن أعقل الكون من حولي، نعمة لم يفكر فيها كثير من العقلاء فضلاً عن كثير من أهل الغفلة، قدر الله أن أزور إخواني وأخواتي في إحدى مستشفيات الأمراض العقلية؛ لنقدم لهم بعض الهدايا، ولنجلس معهم بعض الوقت، فقل من يتذكر هؤلاء، وجاءت فتاة مَنَّ الله عليها بحسن الخلق عرفت بعد ذلك أنها تخرجت من كلية الطب إلى هذا المكان، أخذت "الغترة" من على رأسي ووضعتها على رأسها، ثم بعد ذلك وضعتها على رأسي مرة أخري، ثم بعد ذلك أخذتها، ثم ألقتها على الأرض، ثم ألقت بها في وجهي، ثم ضحكت بطريقة هستيرية مرتفعة، ثم بكت بكاءًا مريرًا طويلاً، وبعد ذلك بدأت تخلع ملابسها كما ولدتها أمها تمامًا، فخرجت أبكي وأقول لإخواني معي: أشهد الله وأشهدكم أنني ما فكرت في نعمة العقل إلا في هذه اللحظة.
هذه المشاهد أوقفتني، وأدهشتني، وكادت أن تخلع قلبي، فأردت أن أوجه رسالة إلى أهل الابتلاء، إلى هؤلاء الذين حبسهم المرض على الأسّرة البيضاء، إلى أهل الابتلاء في كل مكان، إلى من ابتُلي في صحته، في زوجته، في أولاده، في أمواله أو جيرانه.
أود أن أبشرهم ببشرى الله لهم، و ببشرى سيدنا "محمد" لهم، وما أكثر أهل الابتلاء في الأمة، بل وما أكثرهم في الأرض، وأنا أعلم علم يقين أنهم في أمس الحاجة إلى كلمة تضمد جراحهم، وتجدد آمالهم، و ترفع معنوياتهم بصدق.
لبست ثوب الرجي و الناس قد رقدوا وبت أشـكو إلى مولاي ما أجد
فقلـت يا أمـلي فـي كُـلِّ نائبـة ومن عليه لكشف الضـر أعتمد
أشـكو إليـك أمـور أنت تعلمـها ما لي على حملها يَا رَبُّ مِن جلد
وقـد مددت يدي بالـذل مبتهـلا إليك يا خير مَـنْ مُـدَّت إليه يد
فـلا تـردنـها يا رب خـائبـة فبحر جودك يروي كل مَنْ وَرَد
الإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة كالدخان يطير في الهواء، إنما الإيمان قول وتصديق وعمل، لا يكفي أن يقول الناس آمنا حتى يتعرضوا للمحنة والفتنة والابتلاء، ليثبت على الطريق إلى الله ـ جلَّ وعلا ـ مَنْ صفت نفسه، وطهرت سريرته، وتعلق قلبه بالله، واطمأن إلى قدر الله بخيره وشره، وهو في غاية الحب لله، وفي غاية الرضا عن الله، "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".
سورة "العنكبوت": الآية (2ـ3).
فأعلم أخي الحبيب، أن الله تبارك و تعالى لعدله جل جلاله بعد فضله، شاء وقدر ألا يحاسب خلقه بمقتضي علمه فيهم، وإنما بمقتضي أقوالهم وأفعالهم؛ لتظهر للإنسان حقيقة نفسه أمام نفسه، فقد يرى الإنسان أنه مستعد لأي بلاء وأي محنة، وهذا فأنت لا تدري كيف يكون حال قلبك إذا نزلت بك المحنة أو الفتنة، ولذلك لا تتمنوا لقاء العدو أبدًا، فإن قدر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ولقيت العدو فاثبت، وسل الله أن يثبتك، لئن أعافى فأشكر خير من أن أُبتَلى فأصبر، لأنني لا أعلم كيف يكون حالي إذا وقع البلاء، حيث تظهر للإنسان حقيقة نفسه بعد البلاء: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ".
سورة "الحج": الآية (11).
وقال جل جلاله : "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ".
سورة "البقرة": الآية (214).
[i]