لحظة استشهاد
إقتربت الدبابة من الحفرة التي يرقد فيها .. كانت الحفرة عميقة نسبيا .. أخفته عن نظر العدو تماما .. صوت جنزير الدبابة أصبح عاليا .. يكاد يصم أذنيه .. أعلى من أصوات انفجارات دانات المدفعية , والهاونات , وطلقات الرشاشات , التي لم تهدأ طوال اليوم .. رفع رأسه قليلا .. شاهد الدبابة على بعد خطوات من حفرته .. رأى أحرف وكلمات باللغة العبرية التي يعرفها تماما .. مكتوبة على جسم الدبابة .. درسها شريف في كلية الآداب كإحدى المواد الغير أساسية .. أخفض رأسه حتى لا يراه الجندي الإسرائيلي القابع في برج الدبابة .. قابضا على زناد رشاشه النصف بوصة .. تذكر كيف كان صوت هذا الرشاش يزعجه هو وزملاءه , عند احتلالهم المواقع الدفاعية غرب القناة طوال ست سنوات .. أو بالتحديد ثلاث سنوات حتى وقف إطلاق النار عام 1970 .. أما الثلاث سنوات الأخرى , فقد ظلوا يخشونه .. ويحترزون منه .. فاليهود يتسمون بالغدر , ولا يحفظون العهد .. هكذا قال لهم النقيب أسامة أثناء التدريب .
لا زالت الدبابة تزمجر بجواره .. رفع رأسه مرة أخرى .. التقت عيناه بالجندى الإسرائيلي فوق الدبابة .. قبل أن يعود الجندى شريف برأسه إلى داخل الحفرة , رأى الجندي الإسرائيلي ينحني ليبلغ شيئا للسائق داخل الدبابة .. بدأت الدبابة تستدير بمقدمتها في اتجاه شريف .. علي بعد عشرة أمتار .. تواجهه بمدفعها المخيف , وصدرها الحديدي الرهيب .. لكن شريف لم يعد يرهبها , أو يخشاها كما كان يحدث في الماضي , بعد النكسة مباشرة .. عندما كانت تطل فوق الساتر الترابي شرق القناة , وتغمره هو وزملاءه بوابل من النيران المتنوعة بالرشاشات والدانات الثقيلة العيار .. كانت الدانات تصيب الخنادق .. فتتطاير الأغطية الحديدية من الأجزاء المغطاة بالحديد وشكائر الرمل , فتصيبه هو وزملاءه بالرعب والهلع .. ولكن تغير الحال منذ أن تولى المقدم إبراهيم زيدان قيادة الكتيبة في إبريل عام 1972 .. زالت الرهبة من نفوسهم .. وزال الشعور بالخوف من الدبابة .. وخاصة ضباط وجنود السرية الثانية المشاة .. إختارها المقدم إبراهيم لتكون سرية اقتناص الدبابات , وأشرف على تدريبها بنفسه .. كان يثق في النقيب أسامة قائد السرية ثقة كبيرة .. لكفاءته وانضباطه , وقوة شخصيته .. لذا اختار سريته لتكون هي السرية المكلفة باقتناص الدبابات .. في حالة المواجهة المرتقبة مع العدو الإسرائيلي .
استعان المقدم إبراهيم زيدان بالخبرات التي اكتسبها خلال بعثته التدريبية في الإتحاد السوفيتي في تدريب هذه السرية .. كان أول طابور تدريب لها هو التطعيم ضد الدبابات , لإزالة حاجز الخوف الذي نشأ في نفوس الجنود من الدبابة .. أرسل النقيب أسامة ومعه قوة السرية بالكامل إلى موقع كتيبة الدبابات المجاورة .. وهي إحدى وحدات اللواء .. وصلوا فوجدوه في الانتظار , وبعض دبابات الكتيبة خارج حفرها .. اختار المقدم إبراهيم أحد الجنود .. أمره بالتعامل مع الدبابة .. بأن تمر علي جسده ليخرج سليما ويستكمل مهاجمته لها .. بعد أن يتفادى حركة الجنزير وهو تحتها .. ارتعدت فرائص الجندي , وأصابته حالة من الذعر والهلع .. طلب المقدم إبراهيم أن يتقدم أحد الضباط أو الجنود متطوعا للتنفيذ , ولكن لا حياة لمن تنادي .. تقدم هو من الدبابة , وأسَّر لقائدها بعض الكلمات .. ثم ابتعد قليلا عنها .. انبطح على الأرض في مواجهتها .. تحركت الدبابة لتمر عليه .. أصبحت فوقه .. توقفت .. بدأت تدور حول محورها دورة كاملة .. ثم دارت عكس الاتجاه الأول .. المقدم إبراهيم يدور معها أينما اتجهت , وجسده مشدود في خط مستقيم بين كتفي الجنزير .. ندت آهات الضباط والجنود , وتوقفت أنفاسهم .. لأن قائدهم قطعا أصبح جثة هامدة , مفرومة تحت الجنزير .. بعد برهة .. انقشع الغبار , لتتضح الدبابة , وفوقها المقدم إبراهيم , بجوار البرج .. وسط هتاف وتصفيق الضباط والجنود .. منبهرين بما أداه قائدهم من جسارة وجرأة منقطعة النظير .. بعدها أصبح هذا الطابور من أحب الطوابير إلي نفوسهم .. كانوا يتسابقون لتمر الدبابة فوق أجسادهم .. حتى أضحت من هواياتهم المفضلة .
اقتربت الدبابة الإسرائيلية من الجندي شريف .. اتخذ وضع الانبطاح علي الأرض بالأسلوب الذي تعلمه في التدريب قبل بدأ الحرب .. توقفت الدبابة فوق جسده .. لم يحرك ساكنا .. بأطراف عينيه راح يراقب أكتاف الجنازير لاستشعار اتجاه حركتها المقبلة .. بدأت الدبابة تدور حول محورها ومعها جسد الجندي شريف أينما اتجهت .. توقفت برهة .. تحركت واجتازته .. قفز فوقها من الخلف كالفهد .. أصبح في لمح البصر بجوار البرج .. خلف رامي الرشاش مباشرة الذي لم يره أو يشعر به .. أفرغ فيه شريف دفعة طويلة من نيران بندقيته .. سكن جسده فوق البرج .. أزاحه بقدمه ليسقط من فوق ظهر الدبابة إلى الأرض .. لا زالت الدبابة تتحرك .. نزع شريف من حزامه السميك قنبلة يدوية دفاعية .. نزع منها تيلة الأمان .. انتظر قليلا ثم أسقطها داخل فتحة برج الدبابة .. تتناثر شظاياها بالداخل .. تقضي على طاقم الدبابة بالكامل .. تتوقف الدبابة عن الحركة , ولكن ظل موتورها يعمل .. يصرخ بصوته الأجش كأنها تئن وتتوجع من قسوة وشراسة هذا الجندي ذو التسليح البسيط الذي تمكن منها , وانتصر عليها بدرعه البشري الذي لا يعدو كونه كتلة من اللحم والدم في معركة بين لحم وحديد مصفح .
وقف الجندي شريف أعلى الدبابة , رافعا يديه لأعلى , في إحداها بندقيته الآلية .. يصيح ( الله أكبر .. الله أكبر ) .. التقطت أذناه أصداءً كثيرة لصوته كأنه في منطقة جبلية مغلقة وهو ينظر إلي أعلي .. تعجب لهذا .. ولكنه حين ينظر حوله , يدرك أنها ليست أصداء لصوته وهو يهتف .. فقد شاهد زملاءه من أفراد السرية , وهم يقفون فوق الدبابات الإسرائيلية الأخرى وأذرعهم لأعلى يهتفون .. ( الله أكبر .. الله أكبر ) ..أسعده أن يرى الرقيب محمد عزب , وهو يقف فوق إحدى الدبابات , يقوم بإعداد علم مصر في قطعة خشبية طويلة , ليثبتها فوق الدبابة .. ولكن وقعت عيناه على جندي إسرائيلي راقد بجوار دبابة مدمرة .. يسدد سلاحه في اتجاه الرقيب محمد .. لم يشعر أشرف بنفسه وهو يقفز من فوق الدبابة وفي قبضته السونكي ليمنع هذه الطلقات المعادية من أن تنطلق صوب زميله .. رآه الجندي الإسرائيلي مقبلا عليه .. حول إليه سلاحه , أطلق عليه النار ليوقف اندفاعه .. لم يتوقف أشرف رغم إصابته التي لم يشعر بها .. ألقى بجسده فوق الجندي المعادي .. غرس السونكي في قلبه .. لفظ الجندي أنفاسه , وقد ارتسمت علي وجهه آيات الفزع والرعب ..
لم يقو أشرف على النهوض .. راح ينظر إلى جنود السرية وهم يرقصون فوق أبراج الدبابات .. فرحين .. منهم من كان يقود مجموعة من الأسرى اليهود , وهم يضعون أيديهم فوق رؤوسهم في انكسار وذلة .. وآخرون يجمعون أسلحة العدو المستولى عليها .. علها تنفع خلال المراحل المقبلة من المعركة .. رأى شريف أحد الضباط من الوحدة المجاورة .. يمسك بتلابيب رجل بدين , كثيف الشعر أشقر اللون .. خائر القوى .. ويصيح ..
ــ القائد بتاعهم .. مسكته .. اسمه عساف ياجوري ..
راح أشرف يجول ببصره , وابتسامة رضا تعلو شفتيه .. دماءه تنزف على الأرض بغزارة .. أمسك بقبضته حفنة من الرمال المخلوطة بدمائه ورفعها إلي فمه ليقبلها .. فكثيرا ما اشتاق إلى هذه اللحظة التي يعبر فيها القناة .. وتطأ قدمه أرض سيناء , ويقبل رمالها .. طوال ست سنوات وهو يرى العدو المغتصب يلهو ويمرح ويعربد فيها بصلف .. كلما رآهم من موقعه علي الضفة الغربية للقناة , أصابه الحزن الشديد , وتمنى أن يأتي يوم التحرير بأسرع ما يمكن .. ليحرر الأرض ويطهرها هو وزملاءه .
حالة من الشلل والسكون بدأت تتسرب إلى أطرافه .. يشعر بأن الرؤية بدأت تنسحب من عينيه تباعا .. وكأن ضبابا يغطي المكان رويدًا رويدا , رأى فيه أطيافا بيضاء بأجنحتها تغطي الفضاء صعودا وهبوطا كأنها الفراشات .. شعر بإحداها تقترب منه .. تطلع في وجهها .. جمال لم يره من قبل .. وجه يشع نورا وبهاء .. تعلوه ابتسامه .. غنية بالحب , والأمان .. مدت يدها إليه .. سحبته من كفه فأصبح كالريشة في الهواء .. راحت تصعد به إلى أعلى وسط ترحيب وابتسامات باقي الأطياف الأخرى .. وكلما اقترب من السماء ازداد النور سطوعا وابتهاجا .. تناهت إلي سمعه أنغاما وأهازيج ملائكية من بعيد كأنها ليلة عرس , تتضح رويدًا رويدا كلما اقترب من السماء .