قـُبْلـَة ً على جَبـِيْن ... !!
يندفع داخلاً من باب كلية التربية يلقى التحية على أفراد الأمن ،
يردون عليه التحية باسمين ، فهم يعرفونه جميعاً ، ويعرفون أيضاً
سبب اندفاعه فى الدخول هذه المرة .
يتجه صوب النتيجة المعلقة على ذلك الإطار الخشبى ،
وحولها جميع غفير من أقرانه ، يندفع بينهم ويقترب من اللوحة ،
يفسحون له مكاناً وتلهج ألسنتهم بتقديم التهنئة له ،
ينظر لاهثاً إلى الورقة الأولى ، ليجد إسمه أول الأسماء ،
نعم هو الأول على دفعته كما كان فى السنوات السابقة ،
يلتفت إلى زملائه وزميلاته يتقبل منهم التهنئة ويهنئهم بنجاحهم ،
الجميع يعرفه ويحبه ويقدره ويحترمه ،
فهو بالرغم من فقره الواضح ، إلا أنه صاحب وجه صبوح باسم ،
وقلب طيب عامر بالإيمان والمحبة ، مخلص للجميع ،
لايبخل على أحد بما لديه من معلومات يكتبها كلمة كلمة خلف
المُحاضِر لأنه لايملك مايستطيع به أن يأخذ درساً ،
أو يحضر مراجعة .
وماإن ترك زملائه حتى انزوى جانباً وسجد لله شكراً ،
هاهو الآن حاصل على بكالوريوس التربية قسم اللغة العربية
الأول مع مرتبة الشرف ، هو الذى اختار كلية التربية ،
واختار قسم اللغة العربية ليكون معلماً لهذه اللغة العظيمة
التى أحبها وأتقنها وعرف أسرارها وخباياها ،
وقفزت إلى ذهنه فى هذه اللحظة صورة زوجة خاله ،
تلك التى عيرته يوماً بفقره حين كانت أمه تصحبه صغيراً
إلى بيتهم ليلعب مع أولاد خاله الذين يضربونه ويسيئون معاملته ،
وحين يشكوهم إلى أمهم تقول له : بل أنت من يضايقهم
ولهذا يضربونك ، لم يكن وقتها يستطيع أن يمنع أمه من الذهاب
إلى منزل خاله للخدمة هناك ، فقد كانت تقوم بخدمتهم فى مقابل
أجر العملية الجراحية التى أجريت لأمه ودفعه خاله ،
وذات يوم نادته زوجة خاله فذهب إليها فقالت :
خذ هذه الأحذية لخالك وأولاده وقم بتلميعها ، فرفض بشدة
وكاد أن يشتمها لولا أخلاقه ، ولكنها قالت له :
لماذا تغضب ؛ سيكون هذا عملك إذا لم تفلح فى الدراسة ،
ومع هذا الفقر الذى تعيشون فيه لن تفلح أبداً ،
فهيا لتتدرب على عملك الجديد ؛
نظر إليها شذراً والدموع متحجرة فى عينيه ، وخرج من الباب مسرعاً
ولم يدخل منه مرة أخرى حتى اليوم ،
ولكن تلك الكلمات لم تبارح أذنه وعقله وفكره لحظة واحدة ،
ومن يومها أصر على أن يكون صاحب شأن عظيم ،
كان يعمل ليساعد أمه المريضة ، ويعود منهكاً ،
ليأكل ماقسمه الله له من الطعام ويوقد مصباح الكيروسين
وينزوى فى ركن من أركان الحجرة يمسك بكتابه ، يكاد يأكله ؛
وأصبح من يومها الأول علماً وخلقاً ، يحبه الجميع ويقدره الجميع .
نهض بعد صلاة الشكر ، وخرج من باب الكلية
إلى الشارع وقفز فى أول حافلة مرت أمامه ،
وتوجه دون أن يدرى إلى منزل خاله ، فتحت له الباب امرأة
عرفها من ملامحها التى لم يتغير فيها ، سوى بعض التجاعيد
نقشتها السنوات ، عَرَّفها بنفسه فقالت :
مرحباً ، تفضل بالدخول ،
فأبى الدخول ولكنه استسمحها وطبع قبلة على جبينها ،
وتركها وانصرف .
***