الثأر الأكبر
قمت من حفرتي .. رحت أعدو وسط انفجارات الدانات التي كانت تحيطني من كل اتجاه .. أنتقل في وثبات قصيرة .. استطعت الوصول إلى المساعد هريدي .. كانت إصابته خطيرة فوضعت أذني على صدره .. يئن أنات ضعيفة .. لا تكاد تسمع ، استجمعت قوتي وحملته .. كنت أتحرك بصعوبة .. وصلت إلى نقطة الإسعاف الميدانية .. تلقفه مني العاملون بها .. شرعوا في إسعافاتهم الأولية .. تركته وعدت إلى مكاني في الموقع .. دبابات العدو تشتعل فيها النيران .. فشلت في اختراق صفوفنا وتوقفت أمامها .. حين اقتربت منا رأيت الصول هريدي يندفع نحوها .. ألقى على إحداها قنبلة يدوية مضادة للدبابات .. أصابها إصابة مباشرة .. كنت مذهولا وأنا أراه مندفعا نحوها .. بعد أن فجر الدبابة توالت إصابات باقي الدبابات .. كأن القوات قد أصابتها عدوى من الصول هريدي .. فانطلقت المقذوفات المضادة للدبابات من كافة الأعيرة .. انطلقت من كل صوب وحدب .. كأنها حجارة من سجيل .. لم تستطع دبابات العدو الفرار من هذا الأتون الملتهب .. أصيبت جميعها وهي تحاول الهروب .. لا أدرى لماذا أسرعت لنجدة الصول هريدي .. وأنا بالذات .. كنت أتحين الفرصة لقتله .. نعم لقتله .. لقد قضيت عمري كله لا هدف لي إلا قتله .. لم أكن أعرفه .. ولا أعرف شكله .. كل ما كنت أعرفه عنه هو إسمه .. فمنذ أن مات أبي وأنا في الثالثة من عمري وأمي تعدُّني للأخذ بالثأر من قاتل أبي ورفضت تقبل العزاء .. أرجأته لحين الأخذ بثأره .. احتفظت بالبندقية الخرطوش في دولابها .. بين طيات ملابسها بعد أن غطتها ولفتها جيدا بالأقمشة انتظارا ليوم الثأر المنتظر .. لقد أرضعتني أمي منذ نعومة أظفاري الرغبة في الثأر .. أوغرت في صدري الغل .. دفنته في قلبي الصغير .. كانت دائما تذكرني بهذا الواجب المقدس في نظرها .. كبرت واشتد عودي .. وكبر معي رغبتي السوداء .. لم يكن بيني وبين أمي حديثا غير الثأر ودم أبي الذي لم يبرد بعد .. وينتظر مني أن أريحه في قبره وفي رقدته القلقة .. كلما شعرت أمي .. أو ظنت .. أن النار قد خمدت في أعماقي تقوم بإزكائها ، وشعللتها بدون كلل أو وهن .. كنت أقوم بزراعة الأربعة أفدنه التي تركها أبي .. قالت لي أمي يوما
( آن أوان الثأر يا ولدي ) .. أخرجت البندقية الخرطوشة من مكمنها .. ألقتها في يدي بعنف ، والشرر يتطاير من عينيها في إصرار وتصميم .. لم أكن أعرف قاتل أبي .. لم تقل لي أمي سوى أن اسمه هريدي .. زودتني ببعض المؤن والنقود التي كانت تدخرها لهذا اليوم .. رحت أسأل الأهل والجيران ، علمت منهم أنه هرب من بر الصعيد كله .. وأنه توجه إلى بحري وربما يكون في محافظة الشرقية .. استقليت القطار في رحلتي إلى عالم المجهول .. لأبحث عن المدعو هريدي .. كنت كمن يبحث عن إبرة في كوم قش .. وصلت إلى محافظة الشرقية .. لم أكن أدري ماذا أفعل .. كانت البلاد في حالة من الهياج الشديد ، يقولون أنها الحرب على الأبواب والعدو على الحدود .. لم يكن يهمني كل هذا .. كان همي الوحيد هو العثور على هريدي لأقضي عليه .. وأقتله .. وأعود إلى بلدي لأزف الخبر .. ونقيم العزاء لأبي .. وتتحرر أمي من السواد الذي ظل يلازمها عشرون عاما .
كنت أتحرك في كل مكان أحمل الخرطوشة .. لا أتخلى عنها أبدا .. نصحني بعض الذين سألتهم أن أبدأ بحثي بعمال التراحيل من أبناء الوجه القبلي .. وجدتهم على قناطر تسعة بمدينة الزقازيق في مكان تجمعهم الصباحي قبل أن ينتشروا مع مقاولي الأنفار .. لم يفدني أحد فهم لا يعرفون هريدي الذي جئت أسأل عنه ، لم يكن هناك سوى هريدي واحد في العشرين من عمره .. همت على وجهي .. كنت أتحرك طوال اليوم .. وأنام في الحدائق العامة ليلا .. بدأ اليأس ينتابني .. تبخرت كل نقودي .. كان على أن أدبر مأكلي .. لأستطيع العيش لأتمكن من تحقيق هدفي الذي جئت من اجله .. عرضت البندقية الخرطوشة للبيع .. شك في صاحب محل الأسلحة .. فبعد فترة وجيزة كان رجال البوليس فوق رأسي .. اقتادوني في القيد الحديدي .. لم يصلوا معي إلى شيء .. أخفيت عنهم السبب الحقيقي لوجودي .. إدعيت أني أبحث عن عمل .. قاموا بترحيلي إلى مناطق التجنيد .. تم شحننا بالملابس المدنية في لواري إلى سيناء .. قالوا إنها الحرب مع إسرائيل .. ساقونا إلى الصحراء كقطعان الغنم .. لم نلقن بمهمة محددة .. لبسنا ملابس الميدان فور وصولنا إلى المواقع .. ولم نلبث أن وجدنا أنفسنا تائهين في صحراء سيناء بلا دليل أو مرشد .. تلاحقنا طائرات العدو ، وتطاردنا دباباته .. رأينا أهوالا أثناء الانسحاب .. نجحت مع بعض الجنود الوصول لقناة السويس .. أعيد تجميعنا مرة أخرى غرب القناة .. كلفنا باحتلال مواقع دفاعية على الضفة الغربية للقناة .. خضنا معارك الاستنزاف .. كنا نقاتل ونتدرب في نفس الوقت .. استغرق تدريبنا ست سنوات كاملة .. استوعبت فيها دروسا .. واكتسبت مهارات .. وتولد في نفسي ثأر كبير من العدو .. ولكن لم ينسني ثأر هريدي .. ويشاء القدر أن ألتقي به صدفة .. أثناء وجودي في المنطقة الخلفية ضمن مندوبي صرف التعيين للوحدة من مستودع التعيينات .. لم يعرفني .. ولكني عرفته ، عرفته من مجرد إسمه .. لم يهدأ بالي إلا بعد أن عرفت مسقط رأسه .. وتأكدت منه .. ومنذ هذا التاريخ وأنا أتحين الفرصة لاصطياده .. كان يجب ألا أضبط متلبسا بقتله .. فأعدم .. ولا يصل خبر قتله إلى بلدتي في الصعيد .. ولا يقام عزاء لأبي ، ولا تخلع أمي السواد .. كنت أتمنى أن أنفرد به وحده .. كنت دائما أحاول أن أكون ضمن طاقم مندوبي صرف التعيين حتى يظل قريبا من ناظري .
بدأ القتال يوم 6 أكتوبر 1973 .. أصر الصول هريدي أن يكون في الصفوف الأولى .. وجها لوجه مع العدو .. سألته ..
ــ لماذا تصر على ذلك ؟ .. وهناك من يتمني أن يكون في المناطق الخلفية بعيدا عن النيران المباشرة والطلقات ؟ ..
أجابني بحماس وقد لمعت عيناه ..
ــ إنه ثأر مع اليهود منذ هزيمة 67 .. لقد قتلوا رجالنا ، ونساءنا ، وأطفالنا .. واحتلوا أرضنا .. كيف أتركهم إلى المناطق الخلفية بعيدا عنهم .. إنني في الصفوف الأمامية أزود عن زوجتي وأولادي ..
شعرت بالخجل وأنا أسمعه .. أحسست أن أمامي ثأرا أكبر ، وأنا أبحث عن ثأر هزيل صنعناه بأيدينا .. تذكرت أن أبي حين قتل كان أيضا وفاءا لثأر هزيل آخر .
حانت لي أكثر من فرصة لقتل الصول هريدي وهو يتحرك من مكان لآخر في خفة الفهد .. وعزة الأسد .. كانت طلقة واحدة كفيلة بتحقيق الهدف الذي عشت طويلا أسعى إليه .. كانت الفرصة متاحة وسط هذا الكم الهائل من الشظايا والطلقات المتبادلة مع العدو .. ولن يشعر أحد .. ولكني تراجعت .. جبنت .. لا خوفا ، ولكن خجلا .. أحسست أنني سأصبح خائنا .. أقاتل ضمن صفوف العدو .. أقتل من يحاول الزود عن أرضي وأمي وأهلي .. شاهدت جندي العدو فوق برج الدبابة .. يصوب رشاشة نحو الصول هريدي .. لم أشعر بنفسي وأنا أحول ماسورة بندقيتي في اتجاه الجندي وأطلق النار لأرديه قتيلا .. لقد أنقذت الصول هريدي الذي ظل مندفعا نحو دبابة العدو .. تمكن من إصابنها بقنبلته اليدوية المضادة للدبابات .. ولكن حاصرته الشظايا فأصيب .
مع أول أجازة لي بعد انتهاء القتال حرصت على زيارة الصول هريدي بالمستشفى العسكري للاطمئنان عليه .