وأما الوجه الثاني في كمالِ خُلُقه ، فيكون بسِتّ خِصال :
الخِصلة الأولى : رجاحةُ عقله ، وصحّة وَهْمِه, وصدقُ فِراسته ، وقد دلَّ على وفور ذلك فيه صحةُ رأيه ، وصوابُ تدبيره ، وحسنُ تألُّفه ، وانه ما استُغْفِلَ في مكيدة ، ولا استُعجِزَ في شديدة ، بل كان يَلحَظُ الأعجاز في المبادي، فيكشِفُ عيوبَها ، ويحُلُّ خُطوبَها ، وهذا لا ينتظم إلاّ بأصدق وَهْم ، وأوضح حَزْم .
والخَصْلة الثانية : ثباتُه في الشدائد وهو مطلوب، وصبرُه على البأساء والضرّاء وهو مكروبٌ ومحروب، ونفسُهُ في اختلاف الأحوال ساكنة ، لا يَخور في شديدة، ولا يَستكين لعظيمة، وقد لَقِيَ بمكة من قريش ما يُشيبُ النواصي ، ويَهُدُّ الصَّياصي، وهو مع الَّعْف يُصابِر صبْرَ المستعلي ، ويثبُتُ ثبات المستولي .
والخَصلة الثالثة : زهدُه في الدنيا وإعراضُه عنها ، وقناعتُه بالبلاغ منها، فلم يَمِلْ إلى نضارتها ، ولم يَلْهُ بحلاوتها، وقد مَلَك من أقصى الحجاز إلى عِذارِ العراق، ومن أقصى اليَمَن إلى شَحْرِ عُمان، وهو أزهد الناس فيما يُقتنى ويُدَّخَر ، وأعرضُهم عما يُستفاد ويُحتَكَر .
لم يُخلِّف عيْناً ولا دَيْناً، ولا حَفر نهراً ، ولا شيَّد قصراً ، ولم يُورِّث ولده وأهله متاعاً ولا مالاً ، ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها ، فيكونوا على مِثلِ حالِه في الزُّهد فيها .
وحقيقٌ بمن كان في الدنيا بهذه الزَّهادة ، حتى اجتَذَب أصحابَه إليها ، أن لا يُتَّهَم بطلبها ، ويكذب على الله في ادّعاء الآخرة بها ، ويَقنَع في العاجل ، وقد سُلِب الآجل ، بالميسور النَّزْر ، ورضيَ بالعيش الكَدْر .
والخَصلة الرابعة : تواضُعُه للناس وهم أتباع ، وخفضُ جناحه لهم وهو مُطاع ، يمشي في الأسواق ، ويجلس على التُراب ، ويَمتزِجُ بأصحابه وجُلسائِه ، فلا يتميَّز عنهم إلاّ بإطراقِهِ وحيائِه ، فصار بالتواضع متميِّزاً ، وبالتذلُّل متعزِّزاً .
ولقد دخل عليه بعض الأعراب ، فارتاع من هيْبته ، فقال له : خَفِّضْ عليك، فإنما أنا ابنُ امرأةٍ كانت تأكل القَديد بمكة.
وهذا من شرف أخلاقه ، وكريم شِيَمه ، فهي غَريزة فُطِرَ عليها ، وجِبِلّةٌ طُبِعَ بها، لم تَنْذُرْ فتُعَدُّ، ولم تُحْصر فتُحَدّ .
والخصلة الخامسة : حِلمُهُ ووَقارُه عن طَيْشٍ يهُزُّه ، أو خُرْقٍ يستفِزُّه، فقد كان أحلمَ في النِّفار من كل حليم، وأسلمَ في الخِصام من كل سليم ، وقد مُني بجفوة الأعراب، فلم يوجد منه نادرة، ولم يُحفظ عليه بادِرة. ولا حليمَ غيرَه إلاّ ذو عَثْرة ، ولا وَقور سِواه إلاّ ذو هَفْوة ، فإن الله تعالى عَصَمه ، من نَزْغِ الهوى ، وطَيْشِ القُدرة بهفوة أو عَثْرة ، ليكون بأُمَّته رؤوفاً ، وعلى الخلق عَطوفاً .
وقد تناولتْهُ قريشٌ بكل كبيرة ، وقصدَتْهُ بكل جَريرة، وهو صبورٌ عليهم ، ومُعرِض عنهم ، وما تفرَّدَ بذلك سُفهاؤهم دون حُلمائهم ، ولا أراذِلُهم دون عُظمائهم ، بل تَمالأَ عليه الجِلّةُ والدُّون.
فكلما كانوا عليه من الأمر ألحَّ ، كان عنهم أعرضَ وأصفَح ، حتى قَهرَ فعفا ، وقدَرَ فغفَر .
وقال لهم حين ظَفِر بهم عامَ الفتح، وقد اجتمعوا إليه : ما ظنُّكم بي؟ قالوا : ابنُ عمٍّ كريم، فإنْ تعْفُ فذاك الظنُّ بك ، وإن تنتقِمُ فقد أسأنا ، فقال : بل أقول كما قال يوسف لإخوته : (لا تَثْريبَ عليكم اليومَ ، يَغفِرُ الله لكم وهو أرْحَمُ الراحمين).
وأتَتْهُ هندٌ بنتُ عُتْبة ـ وقد بَقَرَتْ بطنَ عمِّه حمزة ، ولاكَتْ كَبِدَهُ ـ فصفحَ عنها ، وبايَعَها .
والخَصْلة السادسة : حِفظُه للعَهْد ، ووفاؤُه بالوَعْد ، فغنه ما نَقَض لمحافظ عهداً ، ولا أخلَفَ لمُراقِبٍ وعداً ، يرى الغَدْرَ من كبائر الذنوب ، والإخلافَ من مساوىء الشِّيَم ، فيَلتزِم فيهما الأغلظ ، ويرتكبُ فيهما الأصعب ، حِفظاً لعهده ، ووفاءً بوعده ، حتى يَبتدىء مُعاهِدوه بنقضه ، فيجعل اللهُ تعالى له مخرجاً ، كفعل اليهود من بني قُريظة وبني النَّضير ، وكفعل قُريش بصُلْح الحُدَيْبِية ، فجعل الله تعالى له في نَكْثِهم الخِيَرة.
فهذه سِتُّ خصال تكاملتْ في خُلُقِه ، فضَّلَه الله تعالى بها على جميع خَلْقِه